الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

سياسة

صورة محمد رسول الله في عيون المستشرقين «3»| ستانلي بول: النبي محمد إنسان متسامح مع أعدائه.. وصبر على كيد اليهود والمنافقين في المدينة

ستانلي بول
ستانلي بول
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حظيت السيرة النبوية باهتمام الدارسين والمستشرقين الغربيين منذ وقت مبكر، فترجموا سيرة ابن هشام وعدد من كتب السير والمغازي، ووضعوا مصنفات عديدة حول سيرة نبي الإسلام، ومن أشهر من صنف في ذلك: جولدتسيهر ومونتجمري وات وجوستاف لوبون وستانلي بول وغيرهم، وبالنظر إلى غزارة ما كتبه المستشرقون وأهمية ما طرحوه في تشكيل الوعي الغربي بشأن نبي الإسلام صلوات الله عليه فإننا سنحاول التركيز على نموذجين من الكتابات الاستشراقية في السيرة النبوية وهما لستانلي بول ومونتجمري، ومن خلالهما نتبين الإشكاليات المعرفية الاستشراقية في التعامل مع السيرة النبوية. 


السيرة النبوية في كتابات ستانلى بول 
يعد المستشرق البريطاني ستانلى بول أحد المستشرقين المرموقين في القرن العشرين، ولد في لندن ١٨ ديسمبر١٨٥٤ وتوفي ٢٩ ديسمبر١٩٣١ عمل منذ عام ١٨٧٤ إلى عام ١٨٩٢ في المتحف البريطاني، وبعد ذلك اشتغل بالبحث فى مصر حول علوم المصريات، من عام ١٨٩٧ حتى عام ١٩٠٤ شغل كرسى الأستاذية للدراسات العربية في جامعة دبلن، وله العديد من المؤلفات حول العرب والإسلام، وقد تناول سيرة النبى محمد بالتحليل في دراسة أعدها ونشرتها مجلة Islamic Review عام ١٩٥٦ أى عقب وفاته بأكثر من عقدين. 
وفي هذه الدراسة يغاير بول منهج المستشرقين الأوائل الذين درسوا سيرة النبي محمد مثل إيجانس جولدتسيهر والذين عمدوا إلى "تشويه" صورة النبي، أما ستانلى فيبدو أكثر اعتدالا وحيادية فيفتتح دراسته بالقول أنه لا يسع المرء إلى أن يشير إلى كون النبى محمد إنسان متسامح مع أعدائه فقد صبر على كيد اليهود والمنافقين في المدينة، ودخل مكة دون إراقة دماء معلنا العفو عمن حاربه وناصبه العداء طيلة ثمانية عشر عاما، مستخلصا من ذلك إلى أن القوة لم تكن جزءا من طبيعته وتكوينه. 
ويركز ستانلي بول في دراسته على تناول الصورة النمطية للنبي الأكرم في الكتابات الاستشراقية، فيناقش المسائل الشائكة، وما قيل عن انتشار الإسلام بالسيف، وهل هو نبي موحى إليه من الله، ورغم ما يشاع عن اعتداله وإنصافه للإسلام، فإننا نعتقد أن بول لم يذهب بعيدا في هذه المسائل فلم ينسف هذه المقولات الاستشراقية وإنما خفف فقط من غلوائها. 
ففي مسألة الشهوانية افترض أنها مسألة محسومة مبدئيا “فعواطف الرجال في البلاد الحارة ليست كعواطف الرجال في الشمال البارد” ولكن هذا لا يعني أن النبى كان "شهوانيا" فإن تقشفه في طعامه وحصيره القاسى الذى ينام عليه وتعبده بالليل شواهد تجعله أقرب للراهب، وأما زيجاته فقد كانت مدفوعة إما بعوامل إنسانية بعد سقوط بعد الأزواج في معارك وتركهم زوجاتهن دون حماية، أو بعوامل سياسية للتأليف بين الأحزاب المختلفة.
وأما قضية النبوة فهو لا يخالف فيها رأي المستشرقين السالفين حيث يعتقد أن محمدا قد آمن في نفسه إيمانا راسخا بأنه رسول موحى إليه، وأن تصوره عن الألوهية ليس وحيا وإنما هو تصور خاص لم يخرج عما فهمه عقل الساميين دائما من كون الإله قادر على فعل كل شيء، وعليم بكل أمر، ولا يظلم الناس شيئا، وأما القوة فهي من أهم صفاته العلية لكنها مقرونة دوما بالرحمة والغفران.
السيرة النبوية في كتابات مونتجمرى وات 
مستشرق بريطاني عمل أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي في جامعة إدنبرة في إدنبرة-اسكتلندا. من أشهر كتبه كتاب محمد في مكة (١٩٥٣)، وكتاب محمد في المدينة (١٩٥٦) من إصدارات جامعة إدنبرة. من زملائه في الدراسة المؤرخ المغربي محمد بن عبود.
ويعد كتاب "تأثير الإسلام على أوروبا القروسطية" واحد من كتب وات المهمة، وهو مجموعة محاضراتٍ ألقيت في الكوليج دو فرانس في باريس أواخرَ عام ١٩٧٠، وصدر عام ١٩٧٢ عن مطبعة جامعة إدنبرة تحت عنوان (بالإنجليزية: "The Influence of Islam on Medieval Europe")‏، ويتألف من ستة فصولٍ تتناول أوجه تأثير الإسلام على أوروبا-القرون الوسطى (القروسطية) وأوجه هذا التأثير المختلفة، والمداخل الجغرافية لهذا التأثير كالأندلس وصقلية والصليبيات.
يرجع جزء وافر من أهمية الكتاب إلى تقييمه أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا والحضارة الأوروبية في الفصل السادس والأخير من الكتاب «الإسلام والوعي الذاتي الأوروبي»، وإلى الفصل الأول «الوجود الإسلامي في أوروبا طرح المشكلة». والذي يتحدث عن تاريخ العلاقة الجدلية بين الإسلام وأوروبا الغربية منذ بدئها.
يقول في الفصل السادس: «إن اهتمام الأوروبيين بأرسطو لايرجع إلى المقومات الأساسية لفلسفته فحسب، وإنما يرجع كذلك إلى انتمائه إلى تاريخهم الأوروبي، وبتعبيرٍ آخر فإن إحلال أرسطو مكان الصدارة في الفلسفة والعلوم ينبغي النظر إليه باعتباره مظهراً لرغبة الأوروبيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين، ولم يكن هذا النشاط السلبي تماماً المتمثل في التنكر للإسلام أمراً سهلاً، بل كان في الواقع أمراً مستحيلاً -خاصةً بعد كل ما تعلمه الأوروبيون من علوم العرب وفلسفتهم- ما لم يكن قد صاحبَ هذا التنكر نشاط إيجابي. وكان هذا النشاط الإيجابي متمثلاً في الدعوة إلى ماضي أوروبا الكلاسيكي أي إلى حضارتي الإغريق والرومان».
ترجم الكتاب إلى عديدٍ من اللغات، وأصدرته وزارة الثقافة السورية بدمشق بالعربية -نقلاً عن الترجمة الروسية- بعنوان «تأثير الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا القروسطية»، وبعدها بقليل أصدرته دار الشروق في القاهرة بترجمة حسين أحمد أمين عن الإنجليزية عام ١٩٨٣ بعنوان «فضل الإسلام على أوروبا القروسطية»، وتعد أفضل ترجمات الكتاب باللغة العربية، وعام ٢٠١٦ أصدرته دار «جسور» في بيروت بعنوان «تأثير الإسلام في أوروبا العصور الوسطى».
ودرس المستشرق البريطاني وات السيرة النبوية في كتابيه ” محمد في مكة” و “محمد فى المدينة” وقدم خلالهما رؤية وصفت بأنها شاملة ولاقت تقديرا كبيرا ليس في الغرب وحده وإنما في الشرق حيث ترجم كتابيه عدة مرات إلى اللغة العربية. 
وأشار مونتجمري وات فى مقدمة كتابه محمد في مكة إلى منهجه أو ما أسماه (standpoint) في كتابة السيرة، موضحا أن دراسته موجهة إلى المؤرخين بالأساس، وأنه سيلتزم بالحياد في القضايا المختلف بشأنها بين الإسلام والمسيحية، وبما يمليه عليه قواعد البحث التاريخي التي تقتضيه ألا يرد أو يدحض أيا من مبادئ الإسلام الرئيسية. 
غير أن هذه لم تكن جميعها معالم المنهج لديه فقد استنبط عبد الله النعيم في كتابه الاستشراق في السيرة النبوية بعضا من معالم منهجه ومنها: 
أولا: منهج التأثير والتأثر، ويعني به تأثر الإسلام بالديانات السماوية في الجزيرة العربية، وقد حدث ذلك عبر ورقة ابن نوفل وبحيرا الراهب اليهودي، وهذا التأثر يبدو جليا في توجه المسلمين في صلاتهم نحو القدس، وصيام عاشوراء، وصلاة الجمعة، وتحليل طعام أهل الكتاب، وهذا التأثر يحمل على الاعتقاد أن الإسلام ليس إلا مزيج ملفق من الديانتين اليهودية والمسيحية، وأن “الرسول قد صاغه على شاكلة الدين الأقدم”. 
ثانيا: التأويل المادي للنبوة والمعجزات النبوية، وهي معلم آخر من معالم المنهج لدى مونتجمري وات ويشاركه فيه عدد لا بأس فيه من المستشرقين، فهو يعلق على واقعة شق الصدر بالقول “إن هناك العديد من القصص ذات الطابع الديني يكاد يكون من المتيقن بأنها ليست حقيقة من وجهة نظر المؤرخ العلماني”. 
ثالثا: التفسير الاقتصادي للغزوات والفتوحات، فيذكر مونتجمري أن مؤرخ القرن العشرين ينبغي أن يسأل أسئلة كثيرة عن الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحركة التي بدأها محمد صلى الله عليه وسلم من غير أن يتجاهل جوانبها الأيديولوجية، وهو يفسر حركة الفتوح الإسلامية انطلاقا من العامل الاقتصادي، ويذهب أنها جاءت كرد فعل على المشكل الاقتصادي الذي ظهر في عهد النبوة والمتمثل في زيادة السكان بفعل توقف الحروب القبلية، فكان هناك ضرورة للبحث عن متنفس للطاقة يستطيع في ذات الوقت أن يحقق موارد مالية، وبفعل هذا اندفع المسلمون منذ العهد النبوي في حركة فتوح خارجية لتأمين الرفاهية الاقتصادية. 
مونتجمرى وات والدراسات الإسلامية
ويأتي كتاب "مونتغومرى وات والدراسات الإسلامية" للدكتور هيثم مزاحم كدراسة لأعمال المستشرق والباحث الاسكتلندي مونتغومرى وات (١٩٠٩ - ٢٠٠٦) عن الإسلام في ميادين عدّة، من السيرة النبوية إلى القرآن الكريم، وصولاً إلى التاريخ والمجتمع والفكر والحضارة الإسلامية، ومراجعة للنقد الذي تعرّض له وات من الباحثين المسلمين.
والكتاب عبارة عن أطروحة كان المؤلّف قد أعدّها لنيل شهادة الدكتوراه، تحت إشراف الدكتور رضوان السيّد، الذي وضع تقديماً لهذا الكتاب، والذي يكشف برأيه عن الخطوط العريضة للاستشراق البريطاني، والتي طوّرها مونتغومري وات وتلامذته طوال عدّة عقود من دون أن يخرج عليها.
أما المؤلّف نفسه، فيعرّف في مقدّمة كتابه بـ"مونتغومرى وات"، كمستشرق وأسقف اسكتلندى تخصّص فى دراسة الإسلام في معظم مجالاته، فألّف كتباً في السيرة النبوية وعلم الكلام والفلسفة والفكر فى الإسلام، ودرس القرآن والتاريخ والحضارة الإسلاميين، والعلاقات الإسلامية - المسيحية. 
وقد عُدّ عمل وات عن سيرة النبي محمد(ص) في جزءيه: «محمد في مكّة» و«محمد في المدينة»، الأكثر موضوعية وعمقاً وشمولية في دراسة السيرة النبوية، بعيداً عن الأحكام النمطية المسبقة الاستشراقية، والمناهج التاريخية العادية؛ فدشّن المستشرق وات منهجاً جديداً في دراسة سيرة النبي محمد(ص) والإسلام، مستفيداً من المنهج التاريخي التحليلي، والمنهج الفيلولوجي والمناهج السوسيولوجية والتحليلية النفسية.
وخلص الباحث، بعد عرضه التحليلي المسهب لأبرز رؤى المستشرق وات في الإسلام والوحي والقرآن والنبوّة والتاريخ الإسلامي، إلى أن وات مستشرق متعاطف بشكل كبير مع الإسلام، وهو قسّيس يجمع بين الالتزام بالمسيحية وتوثيق الصلة بالمسلمين، مع اتصافه بالموضوعية في دراساته والبعد عن التعصب ضدّ الإسلام.
فقد أعلن وات منذ البدء حياديته، وقال إنه لن يقول (قال الله أو قال محمد) في حديثه عن القرآن، بل سيقول (قال القرآن). ويخلص المستشرق إلى أن القرآن هو من الكتب القليلة التي مارست تأثيراً واسعاً أو عميقاً في روح الإنسان؛ فهو «كتاب مقدّس» يعدّه مئات ملايين المسلمين وحياً إلهياً، وأساساً لمعتقداتهم الدينية وشريعتهم وطقوسهم.
ويعتقد وات أن النبي محمد(ص) كان يؤمن بأن الرسالة قد جاءته من طريق التلقين؛ وقد أقام النبي تمييزاً واضحاً بين ما تلقّاه من طريق الوحي أو التلقين وبين أفكاره وأقواله الخاصة.
ومن هنا جاء أسلوب القرآن بشكل رئيس على شكل خطاب موجّه إلى النبى، وليس كخطاب موجّه من النبي إلى أتباعه.
أما بشأن جمع القرآن وإمكانية تعرّضه لبعض التغيير، فيعتقد وات أن الشكل الأكثر بساطة لتنقيح القرآن هو «الجمع»؛ أي: جمع الأجزاء أو الوحدات الأصغر كما نزل بها القرآن؛ ويقول إن السبب الذي جعله يفكّر بذلك هو أن عملية جمع القرآن قد بدأت مع النبي محمد(ص) نفسه، واستمرّت مع تلقّيه الوحي؛ وهو أمرٌ ذكره القرآن في سورة القيامة، في الآيات (لا تحرّك به لسانك لتعجل به* إنّ علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأنه فاتّبع قراءانه * ثمّ إن علينا بيان).
وفي كتابيه حول سيرة النبي محمد(ص): «محمد في مكّة» و«محمد في المدينة»، يسعى «وات» لنفى ثلاث تهم دارت حولها الانتقادات المسيحية والغربية بشخص الرسول(ص)، وهى: الخداع، والشهوانية، والغدر.
يقول «وات» إن اتهام النبي محمد(ص) بالخداع والكذب لا يجعلنا نفهم كيف نجح في تأسيس ديانة عالمية إلاّ إذا افترضنا صدقه؛ أي أنه كان مقتنعاً حقاً بأن القرآن هو وحيٌ نزل عليه من الله وليس من إنتاج خياله.
أما بشأن الزعمين الآخرين، وهما: اتهام الرسول بعدم الوفاء، أو الغدر، والشهوانية، فيعتقد المستشرق الاسكتلندي أن النقاش لا يدور فقط حول الوقائع، بل حول قواعد الأخلاق التي يجب الحكم على الأفعال بموجبها؛ وهي المبادئ الأخلاقية لشبه الجزيرة العربية في حالة النبي محمد(ص)، والتي يعترف بها أفضل الناس أخلاقاً في هذا العصر.
والمقصود بالوقائع التي يشكّك بها في أخلاق النبي(ص) واقعتان هما: نقض صلح الحديبية مع مشركي قريش، وزواج النبي من زينب بنت جحش.
ويشهد وات بأن النبي محمد(ص)، برغم تسنّمه السلطة المطلقة في المدينة، إلاّ أنها لم تفسده إطلاقاً. فقد كان سيّد المدينة، كما كان الداعى المضطهد في مكّة.
لكن المستشرق يخلص، في سياق تحليله لفكرة توحيد الله تعالى، إلى أن التوحيد الذي كان يؤمن به محمد(ص) كان في بدايته لا يختلف عن توحيد من هم أكثر تنوّراً في عصره؛ أي أنه كان توحيداً غامضاً على نحو ما. ولا شك أن المسلمين يرفضون دعوى التدرّج في التوحيد هذه الذي يدّعيها وات، ويؤكدون أن قضية التوحيد الخالص كانت محسومة منذ بداية الدعوة؛ فهي جوهر عقيدة الإسلام.
أما قضية التأثيرات اليهودية والمسيحية التي يزعمها على النبى محمد(ص)، فيؤخذ على «وات» أنه اعتمد على ترجمة معاني القرآن التي كتبها أستاذه ريشارد بل، وخصوصاً في سيرة النبي(ص).
في سياق آخر، درس وات الدور السياسي للنبي محمد(ص) في مكّة والمدينة، ودستور المدينة الذي وضعه النبي؛ وكذلك الفكر السياسي الإسلامي، ومفاهيم الأمّة والجماعة والقبيلة والجوار والثأر والدولة الإسلامية.
ويأخذ بعض الباحثين المسلمين على وات أنه لا يرى سوى البعد المادي النفعي الذي «تبرّر الغاية فيه الوسيلة» في غزوات رسول الله(ص)، إذ يرى هذا المستشرق أن الهدف من الغارات المبكّرة التي شنّها الرسول على قوافل المكّيين التجارية، هو التماس مصدر رزق للمهاجرين الذين كانوا في ضيافة الأنصار.
كما يرفض الباحثون المسلمون زعم وات بأن غزوات الرسول كانت تمثّل انعكاساً طبيعياً للحياة الصحراوية العربية، التي كانت الغارات فيها لوناً من ألوان الرياضة. فما يصحّ بشأن حياة العرب في الجاهلية لا يمكن أن يصح بشأن الحياة في ظلّ الدولة الإسلامية؛ لأن الإسلام لم ينظر للقتال على أنه متعة وتسلية، بل على أنه فرض جهاد.
كذلك، يناقش وات فكرة حريّة الإرادة التي لم ترد بمعناها الضيّق في الفكر الإسلامي، وإنما حلّت محلّها فكرة مختلفة قليلاً، هي قدرة الإنسان على الفعل وتقرير مجرى الأحداث.
ففي رأيه، إن مسألة حرية الإرادة والجبر، أو مسألة العلاقة بين قدرة الله وقدرة الإنسان، هي أننا أمام حقيقتين متقابلتين بل متكاملتين؛ ولا يمكن للإنسان في هذه المرحلة من تطوّره الفكري أن يوفّق بينهما؛ بل عليه أن يجمع بينهما. ويشير وات إلى وجود اتجاهين متعارضين في الإسلام بشأن مسألة حريّة الإرادة والقضاء والقدر؛ اتجاه القرآن، واتجاه الأحاديث النبوية.
وقد توصّل مؤلّف الكتاب في دراسته لمواقف المستشرق وات من نبوّة النبي محمد(ص) والوحي القرآني إلى رأي مفاده أن وات كان متردّداً ومتشككاً أحياناً في القبول بصدق نبوّة محمد(ص) وصحّة الوحي المنزل عليه.
أما بخصوص تشكيكات وات وانتقاداته، فهي وإن كان بعضها مصيباً وبعضها الآخر قاسياً ومبالغاً فيه، فيقول المؤلّف إنه لا يمكن توقّع أن يقبل وات، وهو الأسقف المسيحي الاسكتلندي والمفكّر الغربي، أن يقبل جميع العقائد والآراء الإسلامية في العقيدة والنبوّة والقرآن والسيرة والتاريخ من دون رؤية نقدية وتحليل تاريخي وفيلولوجي للأحداث والعقائد الإسلامية.
وفي النهاية، فإن وات يُعدّ آخر المستشرقين الكلاسيكيين، وهو من مهّد لنمط معرفي استشراقي في الغرب، يمكن تسميته بـ«الاستشراق الحديث»؛ فهو كان «الجسر الواصل بين نمطين من المعرفة بما يخص تناول الإسلام، إذ إنه استوعب الدرس الفيلولوجي والنقدي التاريخي" لبعض المستشرقين، لكنه تجاوز ذلك، مبيّناً في أحيان كثيرة عيوب وغلوّ النمط المعرفي لهؤلاء. كما أنه فتح الباب على مصراعيه لإعادة هيكلة التراث الإسلامي بأدوات سوسيولوجية؛ وكانت دراساته في السيرة النبوية البداية فى ذلك.