الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أمريكا في المصيدة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تاريخ طويل من الأطماع، وسلسلة من الأخطاء السياسية والعسكرية الإستراتيجية قادت أكبر دولة للوقوع في مصيدة كأي فأر يسيل لعابه لقطعة جبن أو طماطم؛ بيد أن المصيدة كتب عليها هذه المرة (صنع في البيت الأبيض).

 كما أن النفوذ السياسى والعسكرى والاقتصادى الأمريكى ممتد باتساع خارطة العالم؛ يبدو مأزق واشنطن فى هذه اللحظه آخذ فى الاتساع والامتداد ليشمل أغلب مناطق نفوذها الحيوى؛ فى ظل خيارات محدودة للخروج الآمن من تلك المصيدة؛ ليس لتحتفظ الولايات المتحدة بهيمنتها الأحادية على الكوكب، وإنما لتبقى قوة عظمى تعترف بواقع جديد لعالم متوازن بين عدة أقطاب وقوى.

الاعتراف بهذا العالم الجديد يأتى هذه المرة من قلب أوروبا ومن أحد أهم أعضاء حلف الناتو؛ فبعد زيارة إلى الصين استغرقت ثلاثة أيام دعا الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون قادة القارة العجوز إلى العمل باستقلال وصفه بالإستراتيجى بعيدًا عن التبعية الأمريكية وعدم التعامل بالدولار خارج الحدود الإقليمية للإتحاد الأوروبى، وعدم الانخراط فى الصراع الصينى الأمريكى حول جزيرة تايوان.

ماكرون قال بوضوح "على أوروبا بناء استقلالها لتكون قطبًا من أقطاب العالم الجديد، ما يعنى أن وعى الرئيس الفرنسى قد تجاوز مرحلة تصريحاته السابقة بشأن موت حلف الناتو إكلينيكيًا، ذلك أن المسألة لا تتعلق فقط باستقلال أوروبا العسكرى وتكوين جيش موحد للدفاع عن مصالحها وفق حسابات أوروبيه قد تتناقض مع حسابات ومصالح حلف الناتو أو بالأحرى واشنطن زعيمة الحلف.

إيمانويل ماكرون يدرك الآن أن ثمة أقطاب أخرى تتشكل وعلى قارته العجوز العمل بجدية حتى يكون لها مكان فى العالم الجديد كقطب قوى ومؤثر يملك أدوات التنافس وآليات التعاون مع الأقطاب الجديدة المتبلورة من روسيا إلى الصين وإفريقيا والشرق الأوسط وحتى أمريكا اللاتينيه أى أن الأمر قد تجاوز مجرد الرغبة فى التحرر من قيود حلف شاخ ربما يقود العالم إلى نهايته.

قد يبدو الرئيس الفرنسى حالمًا بعض الشيء لاسيما وأن القارة الأوروبية لا تملك فى اللحظة الراهنة المقومات الكافية التى تجعلها تستقل استراتيجيًا عن الولايات المتحدة بسبب تورطها فى الحرب الأوكرانية عندما كان لديها شعور زائف بالقوة والقدرة على إضعاف روسيا وتحجيم قدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وما تبع ذلك من عقوبات اقتصادية حرمت أوروبا من الطاقة الروسية الرخيصة (النفط والغاز)، وأجبرتها على شرائها بأربعة أضعاف السعر العادل من جارتها الشمالية النرويج، وحليفتها الإستراتيجية الولايات المتحدة.

 ستمضى أوروبا فى دعم الخطط الأمريكية بشأن الأزمة الأوكرانية لكن مصالحها السياسية والاقتصادية الاستراتيجية علاوة على ما تعانيه من أزمات حادة قد يدفعها من الناحية العملية إلى التخلى عن واشنطن فى صراعها مع بكين.

وفى ظنى أن هذا الموقف الأوروبى إن تبلور سيشكل مأزقًا حقيقيًا للولايات المتحدة وقد تعزز تسريبات الوثائق السرية الأخيرة الموقف الفرنسى ويجعله أكثر قبولًا لدى القادة الأوروبيين ليس فقط بسبب ماحواه من وثائق تفضح تجسس واشنطن على حلفائها وإنما أيضًا لحالة الشك الكبيرة لدى أقرب حلفاء أمريكا فى قدرتها على الاحتفاظ بسرية التعاون والتنسيق معهم ضد أطراف أخرى فى العالم وهو ما يشكل تهديدًا حقيقيًا لمصالح حلفاء واشنطن قبل أعدائها.

تسريبات الوثائق السرية جعلت أكبر قوة فى العالم فى حالة انكشاف استراتيجى باعتراف المسؤولين الأمريكيين فى وزارة الدفاع "البنتاجون" الذين أحالوا القضية إلى وزارة العدل لمباشرة التحقيق لإعتقادهم أن من سرب الوثائق مواطنون أمريكيون من داخل الدوائر الحساسة لصناعة القرار؛ وهذه الإشارة وحدها كفيلة بأن تلقى ظلال الشك حول قدرة واشنطن على الاستمرار فى تنفيذ خططها واستراتيجياتها فى مناطق نفوذها الجيوسياسية حول  العالم.

بمعنى آخر هذه التسريبات تعزز حالة انعدام الثقة فى سياسات الولايات المتحدة لدى معظم دول العالم ومن بينها الشرق الأوسط على سبيل المثال والتى اكتشفت دولة تلاعب واشنطن بأمنها القومى تارة برفع ميليشيات الحوثى من قوائم الإرهاب وتارة بإعلان الانسحاب من الإقليم وعندما نجحت الصين فى إبرام اتفاق لتطبيع العلاقات بين إيران والمملكة السعودية غضبت واشنطن وأرسلت الغواصة الأمريكيه فلوريدا حاملة ١٥٤ صاروخ توما هوك وسفينة حربية وطائرات وقاذفات استراتيجية.

ومع ذلك لن تستطيع الإدارة الأمريكيه زعزعة الاستقرار أو ضرب إسفين بين طهران وجيرانها العرب وستمنع توازنات القوى الجديدة إسرائيل من شن حرب مباشرة ضد إيران ولو كان بمساعدة إمريكا لأن ذلك يتطلب تنسيقًا ودعمًا لوجيستيًا عسكريًا من دول أخرى.. وهذا مأزق آخر لواشنطن لن تسعفها غواصاتها النووية لحله.

وضع الدولار الأمريكى يشكل مأزقا آخر، فقد شرعت العديد من الدول إلى اللجوء لعملاتها المحلية لإتمام عمليات التبادل التجارى فيما بينها آخرها دولة الإمارات التى بدأت من الأسبوع الماضى فى تصدير الغاز إلى الصين بالإيوان الصينى وكذلك البرازيل حيث تم اعتماد الإيوان الصينى والريال البرازيلى فى عمليات التبادل التجارى التى بلغت ١٥٠ مليار دولار إضافة الى الاتفاق المصرى الروسى وهناك اتجاه لدى مجموعة دول البركس لإعتماد الإيوان الصينى كعملة رئيسة وربما يتم الاتفاق على عملة موحدة للتجمع  ناهيك عن تحركات آسيوية لتدشين صندوق نقد آسيوى للتحرر تمامًا من هيمنة صندوق النقد الدولى ومن ثم الدولار.