رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إيران بين "النزاع الحاد" و"النضال اللاعنيف"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

انتهت حدة التناول الإعلامي لأخبار التظاهرات التي شهدتها إيران منذ منتصف شهر سبتمبر الماضي على إثر وفاة الشابة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، وهو ما يفتح الباب أمام تقييم طبيعة انطلاق تلك الاحتجاجات ومآلاتها وتداعياتها على بنية النظام السياسي في إيران خلال الفترة المقبلة، وذلك على الرغم من عدم تراجع النظام عن تشدده حيال الكثير من المطالب التي نادت بها تلك التظاهرات، وأبرزها المسائل المتعلقة بفرضية إجبار النساء على ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، فضلًا عن القرار "الباهت" المتعلق بحل شرطة الأخلاق والصادر في بداية شهر ديسمبر الماضي أي بعد حوالي 6 أشهر من اندلاع تلك الانتفاضة.

وعلى الرغم من أن متابعة مجريات السياسة في إيران تشي بأن النظريات العلمية والفلسفية كافة لا يمكن وحدها تفسير سيرورة ومجريات الأوضاع والوقوف على بنية النظام الإيراني على نحو يشي بفهم كامل لطبيعة هذا النظام شديد التعقيد والحساسية، إلا أن فيلسوف السياسة الأمريكي الشهير جين شارب أمكنه من خلال كتابه "البدائل الحقيقية" أن يضع تفسيرًا – ولو لم يكن يقصد به تفسير الأوضاع الإيرانية – لمجريات التظاهرات التي وضعت إيران على صفيح ساخن لمدة تجاوزت الـ 6 أشهر، وتشابهت في شكلها الخارجي ومدتها مع الثورة الخضراء التي انطلقت عام 2009.

البدائل الحقيقية

وعلى الرغم أيضًا من تتابع الظواهر الاحتجاجية في إيران من وقت لآخر، إلا أن الحالة التي تنتهي بها تلك التظاهرات مدعاة للنظر والتأمل. وهو ما من شأنه أن يفسره الكثير مما جاء في "البدائل الحقيقية" لذلك المنظًر المتأثر بفلسفات توماس هوبز وليو تولستوي وأينشتاين ومارتن لوثر، وغيرهما. حيث أمكنه أن يقدم مصطلحين في عالم السياسة يمكن من خلالهما فك التشابك بين طبيعة تصرف النظام أمام التظاهرات المتكررة وهما "النزاع الحاد" و"النضال اللاعنيف".

ومن خلال تفسير المصطلحين يمكن أن نوصم التظاهرات التي خرجت بشكل متكرر بأنها تنتمي إلى حالة "النضال اللاعنيف"، ومعناه أن يلجأ مواطنون من الدولة بتنظيم تظاهرات واحتجاجات على اختلاف أشكالها وتطالب بمطالب محددة، وهي الحالة التي بدا عليها المتظاهرين مؤخرًا في إيران، والذين طالبوا في البداية بتعديل قوانين الحجاب وانضمت لهم فئات أخرى من المجتمع. وبسبب مقابلة تلك الحالة السلمية بمواجهة أخرى غير سلمية، علا سقف مطالب المتظاهرين وطالبوا بإسقاط النظام بأساليب أخرى من الاحتجاج.

وتتمثل وسائل "النضال اللاعنيف" الذي اتخذه المتظاهرون في لجوئهم إلى 3 إجراءات من شأنها إيصال أصواتهم إلى النظام وهي الاعتصامات السلمية، ورفض التعاون مع مؤسسات الدولة، تعطيل العمل بتلك المؤسسات عن عمد، وهو ما تسبب في رد فعل من النظام تمثل في اعتماد استراتيجية "النزاع الحاد" لمواجهة هذ التطور النوعي في أساليب الاعتراض على مجمل سياسات النظام.

ويمكن تفسير حالة "النزاع الحاد" التي بدت عليها سلطات النظام في إطار أنه نوع من شن الحرب على قوة في منطقة المواجهة من أجل الدفاع عن قضايا يعتقد أنها جيدة وشريفة، وهنا يمكن تصوير العنف على أنه بديل ضرورى للخضوع أمام رغبات المتظاهرين، وبالتالي يصبع "النزاع الحاد" ضرورة ملحة من  أجل الدفاع عن كل ما هو جيد ويستحق البقاء، وهذا بالطبع من وجهة نظر النظام الإيراني.

النزاع الحاد

ويمكن القول هنا أن استخدام النظام لفكرة "النزاع الحاد" من خلال استخدام القسوة في التعامل مع المتظاهرين وهو ما أدى إلى سقوط مئات القتلى والمصابين، وملاحقة البعض الأخر أمنيًا، واستخدام المتظاهرين لفكرة "النضال اللاعنيف" خلق حالة من عدم الانسجام والتناسق بين الفعلين، وهو ما تسبب في ترجيح كفة العنصر الأقوى في التعامل، لتصبح عملية النضال السياسي اللاعنيف ضد أشكال العنف المختلفة غير متكافئة بين طرفي الصراع، وتخلق وضعاً يفتقر إلى وجود أي نوع من التقارب بين الجانبين يسهل معه التفاوض من أجل حل الأزمة، وبالتالي تبرز هنا قيمة مهمة مفادها أن القضاء على العنف لا يمكن أن يحدث بمجرد الاعتراض عليه بالشكل السلمي.

هذا بالإضافة إلى أن بنية النظام الإيراني – كنظام ديكتاتوري ثيوقراطي – يكون في كثير من الأحيان لديه حساسية مفرطة ضد أي تحرك شعبي يمكن أن يتسبب في إضعاف موقفه وسلطته حتى لو كان ذلك التحرك الشعبي مجرد تظاهرات سلمية أو احتجاجات عمالية ذات مطالب فئوية مشروعة طالبت بها كل شعوب العالم حكوماتها، إلا أن ردة فعل النظام الإيراني حيال أي "نضال غير عنيف" يُقابل دائمًا بالقمع والتهديد في كثير من الأحيان، بل وفتاوى التكفير في أحيان أخرى، ما يزيد من حدة رد الفعل الأمني تجاه المخالفين لرأي السلطة باعتبارهم خارجين على القانون وبدأوا في ممارسة إجراءات الخروج من الملة بفتاوى رجال الدين المتكررة.

لكن هناك عنصر آخر ساهم في إضعاف حدة "النضال اللاعنيف" للاحتجاجات السلمية في إيران، وهو حجم الدعم من أجنحة النظام الإيراني وعناصر أخرى، وهو ما يفسره عالم السياسة الشهير كارل دويتش القائل بأنه: "حتى الديكتاتوريات الاستبدادية تعتمد على دعم جماهير لكي تستمر في حكمها". ففي إيران هناك فئات سواء من رجال البازار "التجار"، أو رموز التيار المتشدد، أو النافذين في المؤسسات والمجالس التشريعية ساهموا في تقوية أركان النظام بشكل كبير في مواجهة الاحتجاجات، وهو ما يفسر عدم صدور أية تشريعات أو تعديلات على التشريعات القديمة المتعلقة بالحجاب وغيره من القضايا التي أثارها المتظاهرين.

خاتمة

جملة القول.. إن النظام في إيران لديه أساليبه في احتواء أية تظاهرات أو احتجاجات مهما طال زمنها، باللجوء إلى سياسة "النزاع الحاد" من أجل إضعاف التظاهرات التي رفعت شعار "النضال اللاعنيف" في ظل أوضاع سياسية واقتصادية صعبة تمر بها إيران في ظل استمرار العقوبات المفروضة عليها من أمريكا وأوروبا، وبالتالي فالنظام لا يمكن أن يتجاهل وأد تلك التظاهرات بأي شكل للتفرغ لجوانب أخرى خوفًا من إحداث حالة من الخلخلة في بنية هذا النظام المعقد.

كما نجح النظام في استخدام سياسة "النزاع الحاد" أو العنف أمام سياسة "النضال اللاعنيف" خوفًا على بقاء هذا النظام، الذي رأى في تلك الاستراتيجية فعالية كبيرة لمواجهة أي تحرك من شأنه أن يضعف بنيته أو يهدد بقاءه.