رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: سياسة تغليب الحرب وتغييب الدبلوماسية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تزويد أوكرانيا بالسلاح يجرى على حساب توفير إمدادات الغذاء والوقود للعالم!

القارة العجوز تخون مبادئ حرية التجارة وتسبب آلامًا قاسية للدول الفقيرة.. وقادة الاتحاد الأوروبى لا يعنيهم معاناة 143 مليون روسى وأكثر من نصف مليار مواطن أوروبى


خلال الاثنى عشر شهرًا الأخيرة أنفقت حكومات دول الاتحاد الأوروبى ٥٠ مليار دولار على الحرب والمساعدات فى أوكرانيا بمعدل ٤ مليارات و١٦٦ مليون يورو شهريًا، أى ما يقرب من ١٤٠ مليون يورو يوميًا، تقتطعها الحكومات من أموال دافعى الضرائب، وبدلًا من استخدام هذه الأموال فى تحقيق الرخاء الاقتصادى والاجتماعى، فإنها تغذى بها حريق الحرب لتبقى مشتعلة، ولتستمر معاناة الشعوب من أزمة غلاء المعيشة. تكلفة إمدادات الأسلحة فقط بلغت حتى نهاية شهر يناير حوالى ١٢ مليار يورو، بمعدل ٣٣ مليون يورو يوميا. 
وبينما تغلى أوروبا بموجة من الإضرابات والاحتجاجات التى تطالب بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل، تتحجج الحكومات بأن زيادة الأجور ستزيد التضخم، متجاهلة حقيقة أن حرب أوكرانيا هى السبب الرئيسى فى إشعاله. كما تتحجج بعدم وجود الموارد الكافية لتلبية مطالب العمال والمهنيين، فى حين إنها تجد بسهولة الموارد اللازمة لتمويل إمدادات السلاح والمساعدات العسكرية واستمرار الحرب. شعوب أوروبا لم تشعل نيران الحرب، لكنها تدفع ثمنها مع غيرها من شعوب العالم، خصوصا الشعوب الفقيرة والضعيفة. ولا يجب أن ننسى أن الأوكرانيين والروس يدفعون الثمن الفادح. 
أفعى بثلاثة رءوس: أزمات الغذاء والوقود والتمويل
شعوب العالم كلها تعانى من أزمة مركبة تبدو الآن مثل أفعى لها ثلاثة رءوس، هى نقص وارتفاع أسعار الغذاء والوقود والتمويل. الحرب فوق ذلك تنشر القتل والدمار. المثير للغرابة أن هناك من يحتفل بزيادة أعداد القتلى من الجانبين. بل هناك من يتخذ من صور القتل والدمار وسيلة لابتزاز أوروبا وغيرها لتقديم المزيد من الموارد لإطالة أمد الحرب. أعداد القتلى الروس تقدر بنحو ٢٠٠ ألف أو يزيد، وأعداد القتلى والمصابين والمشردين الأوكرانيين تقدر بالملايين. هذه المؤشرات، بدلًا من أن تكون مدعاة لأن يجتهد العالم فى البحث عن طريق لوقف الحرب، فإنها تحولت إلى هستيريا لمزيد من التعبئة من أجل استمرارها. هذا هو جنون العصر الذى نعيش فيه. الجنون الذى خلق حالة من العمى السياسى، تقف وراءها دوافع أيديولوجية حمقاء، ورغبة جارفة من الولايات المتحدة وحلفائها بتحدى الحقائق الجيوستراتيجية للعالم،  ومحاولة فرض نظام أحادى القطبية، قد انتهى زمنه. 
وفى سياق محاولات نقل لهيب حرب أوكرانيا إلى مناطق أخرى من العالم، تتزايد حدة "عسكرة" العلاقات الدولية يومًا بعد يوم، وهو ما يهدد بإشعال "حروب صغيرة" فى أنحاء متفرقة، تنتشر شرقًا وغربًا، تقسم العالم وتفتته أكثر مما هو. وعلى الرغم من التقارير والتقديرات المخيفة لمخاطر استمرار الحرب، التى وصلت إلى حد استحضار "الخطر النووي" على مائدة النقاش، فإن القوى الحاكمة فى العالم، ترفض الاستماع إلى صوت العقل، وتستمر فى صب الزيت على النار. ومما يثير التساؤل هنا أن الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلنطى (الناتو) تتجه عمدًا إلى تغييب الدبلوماسية كأسلوب لحل الصراع، وتبحر بعيدًا عن أى مبادرة يمكن أن تقود إلى تهدئة؛ فهى تشترط انسحابًا كاملًا من جانب روسيا قبل الدخول فى أى مفاوضات، بينما يقول عُرف الدبلوماسية الدولية أن الشروط المسبقة تضع العراقيل أمام المفاوضات وتهدر فرصتها، أو على الأقل هكذا علموا حكوماتنا فى الشرق الأوسط، لتشجيعها على التفاوض مع إسرائيل. 
 


خطأ الحسابات
المسئول الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل يفخر فى مقال أخير له (بروجيكت سينديكيت - Project Syndicate فى ٢ فبراير الحالي) بأن أوروبا أكملت تدريب ١٥ ألف عسكرى أوكرانى، وأنها بصدد تدريب عدد مماثل. ويفخر بما تبيعه أوروبا لأوكرانيا من السلاح، بما فى ذلك دبابات (ليوبارد) الألمانية. ويقول فى مقاله، إن الهدف هو أن تنتصر أوكرانيا على المعتدى، لأن البديل عن ذلك هو أن تطول الحرب العدوانية، وتؤدى إلى "مزيد من القتلى فى أوكرانيا، وزيادة مخاطر انعدام الأمن فى أوروبا، واستمرار المعاناة حول العالم".. حسنا يا سيدى، الحرب الآن فى شهرها الثانى عشر، ومع هذه السياسة ليس هناك أفق لانتهائها؛ فما الذى يجعل لتلك  السياسة مصداقية؟ إنها سياسة لم تفشل فقط فى تقليل المخاطر والتهديدات والمعاناة، بل إنها زادتها. يقول بوريل إن روسيا مسئولة عن المعاناة لأنها تستخدم إمدادات الطاقة والغذاء كأسلحة فى الحرب. فهل حقا هذا هو الحال؟ أم أن العقوبات هى السلاح الذى تضرب به أوروبا نفسها وروسيا والعالم فى وقت واحد؟. أوروبا على خطى الولايات المتحدة، لم تشبع بعد من استخدام سلاح العقوبات ولم تتعلم، وها هى تفرض حزمة العقوبات العاشرة ضد روسيا! العقوبات تكلف روسيا يوميا حوالى ١٦٠ مليون يورو أو ما يعادل ١٧٠ مليون دولار حسب تقدير معهد بحوث الطاقة والهواء النظيف الفنلندي. وتبدى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين ابتهاجها بذلك، غير مكترثة بمعاناة ١٤٣ مليون روسى، وغير مكترثة بمعاناة أكثر من نصف مليار مواطن أوروبى يعانون من أزمة غلاء المعيشة. المثير للسخرية أيضا هو أن دول الاتحاد الأوروبى فقط تنفق على تمويل الحرب والمساعدات إلى أوكرانيا ما يعادل قيمة الخسائر الروسية كل يوم! 
العقوبات كما أنها تسبب ضررًا كبيرًا لروسيا؛  فإنها أيضا تحرم أوروبا والعالم من التدفق الحر لإمدادات الطاقة والغذاء. أوروبا تخون مبادئ حرية التجارة، وتسبب آلامًا قاسية للدول الفقيرة. السيد بوريل والسيدة دير لين يعلمان ذلك جيدًا من الرسائل التى وجهتها إليهما دول الاتحاد الأفريقي. ومع ذلك يقول بوريل "إننا يجب أن نعطى أوكرانيا كل الوسائل كى تهزم الدولة المعتدية، واستعادة سيادتها، وأن تنضم للاتحاد الأوروبى". هو فى الحقيقة يعيد تكرار هذا القول منذ ١٢ شهرًا، ويبدو أنه لن يمل من تكراره لمدة ١٢ شهرًا أخرى أو أكثر. 
تغليب الحرب وتغييب الدبلوماسية
السؤال الجدير بأن يطرحه أى عاقل هنا هو: لماذا تمتنع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى عن تشغيل ماكينة الدبلوماسية، لتجنب استمرار هذه الحرب وإنقاذ العالم من ويلاتها؟..  لقد أدى تغليب الحرب وتغييب الدبلوماسية لإشعال أزمة غلاء المعيشة فى كل أنحاء العالم، خصوصًا فى أوروبا، التى تعيش غضبًا سياسيًا لم تشهد مثله منذ أكثر من عقد من الزمان، وتعانى من تضخم فى الأسعار لم تشهد مثله منذ أربعة عقود من الزمان. وتمثل الإضرابات النقابية والاحتجاجات العامة مظهرًا من مظاهر الغضب الذى يكلف أوروبا تكلفة اقتصادية باهظة، تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، ويهز استقرارها السياسى، ويضعف قدرتها على المنافسة العالمية، فى ظروف تشتد فيها حدة الاستقطاب الدولى والتنافس على النفوذ. 
على سبيل المثال، يشارك فى موجة الإضرابات الحالية فى بريطانيا أغلبية ساحقة من المدرسين، والممرضين والمسعفين وإخصائيى العلاج الطبيعى والأطباء حديثى التخرج، والعاملين فى السكك الحديد، وسائقى القطارات والباصات، وغيرهم من العاملين فى قطاعات الخدمات الأساسية والاجتماعية. وكالة بلومبرج قدرت خسائر بريطانيا من الإضرابات فى العام الماضى بما يقرب من مليارى دولار. ومن المرجح أن تصل الخسائر هذا العام إلى أكثر من ثلاثة أضعاف هذا المبلغ مع اتساع نطاق الإضرابات. المثير للدهشة أن الحكومة البريطانية تحاول الرد على ذلك بتقييد حق العاملين فى الإضراب، بدلا من تسهيل التوصل إلى حلول للمشاكل الناتجة عن أزمة غلاء المعيشة. وتتحجج بأن مطالب العاملين لزيادة الأجور مبالغ فيها، ولا يمكن تحملها، فى حين أنها تقدم بسهولة، مع دول حلف الأطلنطى، عشرات الملايين من الدولارات يوميًا لتمويل الحرب فى أوكرانيا وتزويدها بالأسلحة والذخائر. 
الحرب كلفت دول الاتحاد الأوروبى حتى الآن حوالى ٥٠ مليار يورو، منها ١٢ مليار يورو لتمويل إمدادات السلاح فقط (حوالى ١٣.١ مليار دولار) حسبما جاء فى مقال جوزيب بوريل المشار إليه. وإذا أضفنا ما تحملته الولايات المتحدة وبريطانيا فى تمويل إمدادات الأسلحة، فإن التكلفة ترتفع إلى حوالى ٤٥.٢ مليار دولار، يخص الولايات المتحدة منها ٢٩.٣ مليار دولار، والاتحاد الأوروبى ١٣.١ مليار دولار، وبريطانيا ٢.٨ مليار دولار. وهو ما يعنى أن هذه الدول تنفق من أموال مواطنيها دافعى الضرائب أكثر من ١٢٥ مليون دولار يوميا لتمويل إرسال الأسلحة فقط إلى أوكرانيا بهدف إطالة الحرب. هذا بدون حساب المساعدات الاقتصادية والإنسانية ونفقات برامج التدريب. وبسبب الحرب، يقدر صندوق النقد الدولى أن معدل النمو الاقتصادى لدول منطقة اليورو فى العام الحالى سيهبط إلى ٠.٧٪، أى خُمس ما حققه فى العام الماضى الذى كان ٣.٥٪.  فهل هناك منطق رشيد وراء سياسة تغليب الحرب وتغييب الدبلوماسية؟

لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:

https://www.ledialogue.fr/