الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

خالد عز يكتب: «الفجالة».. منصة للمعرفة انطلق منه تاريخ الصحافة والأدب والفكر العربى

خالد عزب
خالد عزب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بدأ تنظيم الشارع بعدما استغل الفرنسيون الأرض فى تدريبات جيش الحملة

كان التنوع العرقى والدينى والاجتماعى ميزة الفجالة وبالرغم من هذا لم نعرف حتى الخمسينيات من القرن العشرين عنفا أو حوادث بهذا الحى، ورأينا كل الطوائف المسيحية تشيد كنائس لها به

المشهد فى القرن الحادى والعشرين فى الفجالة مختلف عن المشهد فى الفجالة فى القرن التاسع عشر.. كانت الفجالة فى القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن العشرين تنتج نصف الكتب الصادرة فى مصر وثلث ما ينتج عربيا، وحينما كان القطار ينطلق من القاهرة للقدس حتى عام ١٩٤٧ كانت الكتب تصدر بالقطار إلى فلسطين ومنها إلى سوريا ولبنان والعراق،  من شارع الفجالة انطلق أدب نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وكبريات دور النشر التى صاغت الذائقة العربية لعقود. توارى كل هذا فما بقيت بالفجالة دور نشر قليلة هى مكتبة مصر ونهضة مصر والمؤسسة العربية، ولولا الارتباط بالكتاب المدرسى الإضافى لغادرت باقى دور النشر، أو حتى التمسك بالإرث التاريخى لأغلقت دار المعارف مقرها فى الفجالة.
 

ميدان باب الحديد ومبنى محطة السكك الحديدية قبالة شارع الفجالة

كانت الفجالة على شاطئ نهر النيل وبفعل المد والجزر، صار النيل بعيداً فى الوقت الحالى عن المنطقة، فلم تكن أحياء مثل شبرا ولا بولاق أبوالعلا لهما وجود بعد، لذا حين فتح العرب مصر وجد عمرو بن العاص فى هذه المنطقة حصناً صغيراً به حامية بيزنطية خاض معها معركة حتى انتصر عليها. عرفت منطقة الفجالة بأم دنين، ثم كانت ميناءً على النيل يستقبل البضائع بالمراكب فعرف بـ"المكس» وحرفت إلى المقس فى المصادر التاريخية، تسمية المكس تعود إلى المكوس وهى كلمة عربية تعنى مبالغ الجمارك التى تدفع على البضائع الواردة إلى هذه الميناء، كانت الأرض إلى حى باب الشعرية أرضاً زراعية خصبة سرعان ما صارت متنزهات للخلفاء الفاطميين فبنوا بها مناظر على النيل للتنزه، وفى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله دخلت بغداد فى حوزة الدولة الفاطمية، وكان فى القاهرة سيدة لديها فرقة تغنى للخلفاء فغنت قصيدة طويلة فى هذه المناسبة فأقطعها أرض منطقة الفجالة فعرفت كلها بأرض «الطبالة» نسبة إليها وغلب عليها هذا الاسم، وفى العصر الأيوبى شيد قراقوش فى عصر صلاح الدين الأيوبى، بسور المنطقة قلعة صغيرة عرفت ببرج المقس، وكان بالسور باب عرف بباب الحديد، فاشتهر به ميدان رمسيس المجاور للفجالة، وهدم هذا الباب فى عصر محمد على.
 

صورة نادرة لقصر بطرس باشا غالى فى الفجالة

مع الزمن تغير المشهد فهجرت الفجالة إلا من أرض زراعية صارت تزرع بالفجل فتغير اسمها من أرض الطبالة إلى الفجالة، وعند دخول الفرنسيين استغلت الأرض فى تدريبات جيش الحملة، وكان هذا بداية تنظيم شارع الفجالة ليخترق المنطقة من باب الحديد إلى منطقة الظاهر وباب الشعرية، وعندما جاء عباس حلمى الأول وشيد ضاحية العباسية بدأت هذه المنطقة تلفت الانتباه كمنطقة سكنية، وكان أول من سكنها تادرس أفندى عريان، وكانت داره بجوار مدرسة الآباء اليسوعيين، وطابت الإقامة بها حتى شيد فى فناء داره داراً لأولاده عريان بك وكركور أفندى وباسيلى باشا الذى كان مستشارا فى الاستئناف العالى، وممن عاصروا تادرس افندى فى السكن جاد أفندى شيحة، وكان يعمل فى دائرة عباس حلمى الأول فأنشأ دارا فى الفجالة بين الدرب الإبراهيمى والجبرونى، بين شارع كلوت بك وشارع الفجالة، وما زالت أثاره باقية فى عطفة شيحة بالفجالة، واستقر بهذه الدار أولاده واصف، دميان، ميخائيل، وأنعم سعيد باشا على دميان بفدانين بجوار منزلهم، فشيد دميان عمارة رقم ٥ شارع سعيد المهرانى فى الفجالة والتى كانت مقرا لصحيفة الأخبار ومطبعتها وهذه غير صحيفة الأخبار التى أصدرها الكاتبان على ومصطفى أمين، وكانت مقرا أيضا لجريدة مصر ومطبعتها، وهى أول عمارة فى شارع الفجالة، ويرجع تاريخ إنشاء هذه العمارة إلى ما قبل سنة ١٨٥٦ م، ثم بنى أل جاد عمارات أخرى، وشيدت أسرة جاد من العمارات السكنية فى الفجالة وما زالت العديد من عقود الأراضى بالفجالة تتسلسل إلى أسرة جاد، شيد ميخائيل جاد كنيسة العذراء على أرضه فى الفجالة ووقف عليها أوقافا للصرف منها على الكنيسة، لكن الحدث الأهم الذى وجه الفجالة كان فى عهد الخديو اسماعيل حيث أنه بعد افتتاح خط سكة حديد القاهرة الإسكندرية فى عهد سعيد باشا وانتظام حركة القطارات صارت الفجالة منطقة جاذبة حيث أن بها ميدان باب الحديد المجاور لها، ولذا انتشرت بها المقاهى والفنادق الصغيرة مما دفع عائلة قطاوى (عائلة مصرية يهودية برز عدد من أفرادها فى النشاط السياسى والاقتصادى فى مصر فى أواخر القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العـشرين) لبيع مخازن لها بالفجالة لتكون عمارات سكنية، لكن كان على أطراف الفجالة تل يلقى فيه سكان باب الشعرية والظاهر مخلفاتهم فعرف بتل العقارب لانتشار العقارب به، فاشترى التل حبيب سكاكينى وسوى أرضه وشيد عليه قصرا من أجمل قصور القاهرة، وكانت مصلحة التنظيم قررت تنظيم شارع الفجالة لأهميته فجعلت عرض الشارع ٨ أمتار، إلا أن حبيب سكاكينى رفع مظلمة مسببة بأهمية هذا الشارع وطلب أن يكون عرضه عشرين مترا، فاستجاب له الخديو اسماعيل وتلاقى فى الفجالة شارع كلوت بك ببوائكه مع شارع الفجالة فى عصر الخديو إسماعيل، وتزدهر الصحافة وحركة النشر فى مصر ولتتحول الفجالة إلى محطة مهمة فى تاريخ النشر فى مصر، وليشيد حبيب سكاكينى عمارة فتح بها مكتب بريد ليخدم الحركة المتزايدة يوما بعد يوم فى هذه المنطقة وما حولها .
 

مدخل الفجالة من ميدان رمسيس ويظهر مسجد اولاد عنان الذى بنى مكانه مسجد الفتح

استقر السوريون واللبنانيون فى الفجالة وكانوا هم عماد حركة النشر بها بعد أن هربوا لمصر من اضطهاد العثمانيين، ومن أشهر دور النشر فى الفجالة فى أواخر القرن ١٩ إلى منتصف القرن العشرين، مطبعة المعارف ومكتبتها، ودار المعارف التى أسسها نجيب مترى مع جورج زيدان عام ١٨٩١ ثم ينفصل عنه جورج زيدان ويؤسس فى الفجالة دار الهلال ومجلة الهلال ومنها يصدر أشهر رواياته وكتبه، ومطبعة التأليف، وبلغ عدد دور النشر التى عملت من الفجالة منذ القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين ٢١٢ دار نشر معظمها أغلق أو غير مكانه إلى مكان آخر، لكن ما زالت بعض دور النشر تحتفظ بمقارها القديمة فى الفجالة مثل نهضة مصر التى ترتبط بالكتاب المدرسى الخارجي، وإن كانت المؤسسة العربية الحديثة تعمل من الفجالة وهى تشتهر بمرجع دراسى فى مصر شارح لكتب وزارة التعليم هو سلاح التلميذ لكنها ايضا الناشر الذى تبنى الروائى المصرى الدكتور أحمد خالد توفيق الذى شكلت أعماله وعى الأجيال منذ تسعينيات القرن العشرين، وتقف مكتبة مصر التى أسسها سعيد جودة السحار وعبدالحميد جودة السحار عام ١٩٣٢ م ونشرت لعمالقة الادب فى مصر مثل نجيب محفوظ وهى التى تبنت رواياته، ويوسف السباعى واحسان عبد القدوس وعلى أحمد باكثير، تجاوز عدد عناوين الدار عشرة الاف عنوان وهو رقم قياسى فى تاريخ دور النشر العربية.

 

سليم سركيس

ارتبطت حركة النشر فى الفجالة بالصحافة فقد كان شارع الفجالة هو شارع الصحافة فى مصر اتخذته معظم الصحف والمجلات مقرا لها حتى ازدهرت المقاهى به التى كانت منتديات للقاء الصحفيين والكتاب والأدباء، بل سكنه أصحاب اللطائف والمقطم والمقتطف، وسليم أفندى سركيس الذى نال شهرة واسعة فى الدول العربية ويعود هذا لإصداره مجلة سركيس التى ابدتعت جوائز توزع على الأدباء والكتاب فنالت شهرة واسعة، سكن الشاعر خليل مطران الفجالة، وكذلك اللغوى سقراط سبيرو الذى ذاع صيته فى العالم فقد كانت مقالاته وكتبه يكتبها باللغتين العربية والإنجليزية، إن جولة على الصحف والمجلات المصرية فى أرشيف دار الكتب المصرية سنرى خلالها عناوين كل من: مجلة المحيط، مجلة رعمسيس، مجلة فرعون، مجلة المفتاح، جريدة العمران، مجلة الحقوق، مجلة ميزان الاعتدال مقراتها فى الفجالة، ولأن هذا قاد لحراك ثقافى وفكرى فى المنطقة العربية غير مسبوق فقد اشتهرت مقاهى مثل مقهى غنطوس مصوبع التى أنشئت عام ١٨٩١ م وأقفلت عام ١٩١٦ م، وكان يرتادها ابراهيم اليازحى ومصطفى المنفلوطى وسليمان البستانى وأحمد لطفى السيد وغيرهم، كانت القهوة صالونا أدبيا يوميا، فاحترف صاحبها الصحافة فأصدر من القهوة صحيفة أسبوعية هى (الإعلان) ثم أصدر سلسلة كتب تحت عنوان (مكتبة الإعلان)، ومن مقاهى الفجالة قهوة مراد الذى قصر من يرتادها على الصحفيين والمحررين فقط، وقهوة الشانزلزية التى اشتهرت كملتقى للأدباء ومنها انطلقت شهرة شعراء وكتبت مسرحيات حتى خصص صاحبها ملحقا بها لتمثيل المسرحيات .
 

جورجى زيدان

كان التنوع العرقى والدينى والاجتماعى ميزة الفجالة وبالرغم من هذا لم نعرف حتى الخمسينيات من القرن العشرين عنفا أو حوادث بهذا الحى، ورأينا كل الطوائف المسيحية تشيد كنائس لها به، ومن أشهرها كنيسة الروم الكاثوليك التى بنيت على أرض تبرع بها حبيب سكاكينى وتتميز بمعمارها الجميل، وافتتحت للصلاة عام ١٩٠٦ م، وكنيسة الأقباط الكاثوليك التى تتميز بصغرها وروعتها فى اناقة معمارية لم نر مثلها فى كنائس مصر، ونقف كثيرا أمام زخارف كنيسة السريان الكاثوليك التى شيدت عام ١٩٠٩ م، وكنيسة الكلدان الكاثوليك التى شيدتها هيلانة كريمة أنطون بك عام ١٩٠٣ م، لنرى مدارس للطوائف المسيحية ارتبط بعضها بالكنائس، لتصبح الفجالة مركزا للتعليم والمعرفة .

الأن الفجالة تراجعت حركة النشر بها وصارت الأدوات الصحية و السيراميك والأدوات المدرسية فى ٩٥ ٪ من محلات الفجالة حتى خفت صوت الفجالة المعرفى، وكان هذا مؤشرا على فقد مصر قيمة التراكم الزمنى للمكان ووظيفته، ففى هذا الشارع انطلقت مواهب مصرية وعربية فمحمد كرد على أول وزير معارف فى سورية وأول رئيس لمجمع اللغة العربية فى دمشق عرف عبر كتبه ومقالاته التى نشرت من الفجالة، وعدد كبير من كتاب وأدباء العراق بدأت مسيرتهم من الفجالة، ولم يكتشف التراث المعمارى للفجالة إلى الآن والتى صارت تفقد يوما بعد يوما ملامحها، فقد كان بها إلى ثمانينات القرن العشرين واحدا من أجمل قصور القاهرة وهو قصر بطرس باشا غالى الذى شيد فى الربع الأخير من القنر ١٩ وعاش به نجيب غالى وواصف غالى وغيرهم من أعلام هذه الأسرة، فهدم وحل محله عمارات سكنية، كما أن وثائق هذا الحى التى تؤرخ له مثل وثائق دور النشر صارت مبعثرة خارج وداخل مصر أو فقدت، لنفقد معها سيرة حى صاغ التاريخ الفكرى والمعرفى وتاريخ الصحافة فى مصر.

معلومات عن الكاتب

الدكتور خالد عزب.. باحث متخصص فى التراث، شغل منصب رئيس قطاع المشروعات الخاصة فى مكتبة الاسكندرية، عضو المجلس الدولى للمتاحف، صدر له 50 كتاباً، حصل على جائزة أفضل كتاب فى الوطن العربى عام 2014، عضو فى عدد من الجمعيات العلمية. حاضر فى جامعات طوكيو وأكسفورد وليبزج وغيرها.. يعود بنا إلى تاريخ قديم ويسرد مجد شارع الفجالة الذى لا تعرفه الأجيال المعاصرة.
لمطالعة موقع ديالوج .. عبر الرابط التالي :

https://www.ledialogue.fr/