الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في العيد السابع لـ«البوابة».. عبدالرحيم علي كما يجب أن تعرفه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم تكن «البوابة»، الموقع والجريدة ومركز الدراسات وكتيبة العاملين فيها، إلا الامتداد المنطقى لجهود سابقة تسعى لدراسة  وتحليل  خطاب الإسلام السياسى وتنظيماته، والتصدى للكشف عن الجوانب المسكوت عنها، خوفا أو جهلا.

لقد انتبه عبدالرحيم على مبكرًا، منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، إلى خطورة الظاهرة والتداعيات الكارثية التى قد تترتب عليها، وفى كتبه ومقالاته عبر أكثر من ربع قرن، ما يشير بحق إلى تفرده وتميزه فى هذه الساحة.
قد يكون صحيحا ما يُقال عن أنه ليس الوحيد الذى يبدى اهتماما ويدق أجراس الخطر، لكن الصحيح أيضا هو أنه الأكثر شجاعة وجرأة ووضوحا، والأبعد عن الإمساك بالعصا من منتصفها، ذلك أنه يعى منذ البدء أن مصائر الأوطان لا يمكن أن تكون موضعا للمساومة والمراوغة والحلول الوسط وإيثار الأمان الشخصى عبر تجنب الصدام مع الجماعات الإرهابية التى تحاور خصومها بالرصاص، ولا تقنع إلا بالرضوخ الكامل لأفكارها المتخلفة التى تتوهم أنها اليقين المطلق والصواب الذى لا تشوبه شائبة.

مع صعود الإخوان إلى قمة السلطة التنفيذية والتشريعية، عبر أساليب وتفاعلات معقدة مريبة، كان الاختبار الصارم لقطاع عريض من المثقفين وأشباه المثقفين، أولئك الذين يتقنون فن المراوغة، ويدمنون لعبة التحولات الكارثية، فهم اشتراكيون وليبراليون وإسلاميون و«تحت الطلب»، ولا مشترك فى رحلة التحولات هذه إلا الانتهازية الرخيصة واحتراف الكذب وبيع القليل الذى يملكونه من المهارة بالثمن البخس.

فى ذروة السطوة الإخوانية وما يحيط بها من إرهاب علنى سافر، لم يتردد عبدالرحيم لحظة واحدة فى الذهاب إلى قلب ميدان التحرير ليؤكد أن مزبلة التاريخ فى انتظار ساكنى القصر الجمهوري، والسجون تتهيأ لاستقبال المجرمين الخونة.

كان الأدعياء الذين يملأون الساحة ضجيجا الآن يقولون إن الحكم الإخوانى سيمتد خمسمائة عام على الأقل، وكان هو فى الميدان يقول إنها مسألة لن تستغرق إلا القليل من الشهور. لا شيء يحميه وسط كتائب الإرهابيين المتربصين إلا إيمانه العميق بضرورة أن تُقال كلمات الحق، والثقة فى وعى الشعب القادر على التمييز بين الجيد والرديء، وبين المؤمنين بالوطن ومن يرونه حفنة من التراب العفن.

كان تأسيس البوابة وبداية العمل فيها، وسط أجواء بالغة الصعوبة، حلقة جديدة فى سلسلة الاجتهاد الصادق للتعبير عن حب الوطن والدفاع عن ثوابت الانتماء إليه، وكان لى شرف المشاركة، مع الصديقين العزيزين عادل الضوى وسليمان شفيق، فى تأسيس المشروع التنويرى الذى يرى فيه عبدالرحيم أداة فعالة لمقاومة الفاشية الدينية والدفاع عن الدولة المدنية المهددة بالضياع.

منذ اليوم الأول كان الموقف واضحا لا لبس فيه، والرؤية جلية ساطعة لا يتجاهلها إلا أعمى البصر والبصيرة. من يعود إلى المنشور من مقالات وتحليلات وتقارير وحوارات، لن يجد صعوبة فى اكتشاف شجاعة بلا ضفاف، فى الوقت الذى لاذ فيه من يزعمون الثورية والتنويرية بأسرّتهم بحثا عن الدفء والأمان. كانت البوابة تخوض المعركة فى وضوح لا ذرة فيه من الحسابات ولعبة التوازنات الرخيصة، منتصرة للدولة المدنية، رافضة للحكم الإخوانى الذى يرتد بنا إلى ما قبل العصور الوسطى. ولأنى كنت فى قلب الأحداث فقد عرفت عن قرب كم من الإغراءات والتهديدات تعرض لها عبد الرحيم، لكنه لم يهتز أو يتراجع، وتشبث بالاستمرار فى المقاومة حتى تحقق المأمول وانزاح الكابوس.

لا يمكن الفصل بين البوابة وعبدالرحيم على، والذين لا يعرفونه عن قرب، وبعمق تاريخي، قد يجهلون مفاتيح شخصيته. يحق لى أن أتحدث بقدر كبير من الثقة فى هذا المحور، ذلك أن العلاقة بيننا تمتد جذورها إلى مطلع الثمانينيات، ولم يكن العشرينى عبد الرحيم عندئذ إلا الشاعر والمثقف والسياسى والإنسان؛ رباعية تحتاج إلى شيء من التفصيل.

أزعم أن الشعر مفتاح مهم لاستيعاب وفهم شخصية الصديق عبد الرحيم على، وفى ديوانه الأول والوحيد: «العواصف»، ١٩٨٧، وكان لى شرف كتابة مقدمته، يظهر لنا وجه الشاعر الثائر المنشغل بهموم الوطن من ناحية وقضايا الإنسان الوجودية فى كل زمان ومكان من ناحية أخرى. يقول فى مطلع قصيدته «غربة»:

«من تُرى يحمل الآن صمتي

ويمضي

وخلف المدائن يلقى الحقيبة

خلف البحار

المنازل،

خلف دروب السفر

من ترى سوف يمنحنى المستقر!».

كأنه يقرأ ما سوف يكون. كانت موهبته الشعرية واعدة مبشرة بالكثير، لكنه انصرف عن كتابة الشعر فى السنوات التالية، وبقى الشاعر كامنا فى أعماقه. فى هذا الإطار، يمكن التأكيد على أنه يجمع فى حياته ومعاركه بين الرقة والقوة، ويرى الوجود فى جملته فعلا شعريا يتطلع الإنسان من خلاله إلى معانقة الحق والخير والجمال. شهوة إصلاح العالم تسكنه، وقد يحتد أحيانا ويبدو عنيفا مثل مقاتل شرس، لكن هذه هى القشرة التى تخفى بساطة الطيبين المولعين بهمسات الشعر وأنين الناي.
حال قدرتنا على اختراع آلة الزمن، والعودة إلى الثمانينيات، تظهر مدينة المنيا، الجميلة الرقيقة الوديعة، وقد توحشت فيها الجماعات الدينية المتنطعة المتعنتة، وفى مواجهتها عدد قليل من المثقفين الذين لا تخيفهم هراوات وجنازير وسيوف الإرهابيين.
كنا نتصدى فى بسالة لجحافل الظلاميين المسكوت عنهم من أجهزة الدولة الرخوة، بل إن بعض هذه الأجهزة لا تبخل عليهم بالدعم والتأييد. كنا نؤمن بأن الثقافة سلاح ناجز لا يُستهان به، وقد يظهر ذات يوم قريب أو بعيد من يؤرخ للمرحلة ويكشف عن الفارق الشاسع بين روعة الصمود وخسة السقوط.
فى تلك الأيام كنا على يسار حزب التجمع، لكننا انخرطنا فى صفوفه تأييدا لمرشحيه فى الانتخابات البرلمانية، المرحوم الدكتور وجيه شكرى تحديدا، وأظن أننا قد حاولنا قدر الطاقة أن ننشر الوعى وننتصر للوحدة الوطنية بشكل عملي، ونصدر مجلة وسلسلة من الكتب تنتصر للثقافة الشعبية التقدمية بكل ما فى جيوبنا الفقيرة من قروش وجنيهات.
فضلا عن الشعر والثقافة والسياسة، يبقى الوجه الإنسانى لعبدالرحيم على جديرا بالكثير من التأمل والإعجاب. السمة الأبرز فيه أنه لا يملك ما يملك، ويأبى أن تمتلكه الأشياء. إنه يعطى بلا حساب، وأجمل ما فى عطائه أنه حريص حد التطرف على إخفاء ما يعطي، متمسك بألا يُذكر أو يشيع.
لولا يقينى بأنه لا بد غاضب إذا ذكرت وقائع تكشف عن سخائه غير المحدود، وبعضها يخص كاتب هذه السطور، لأفضت فى الحديث وذكرت الأسماء والمواقيت، لكننى أقول ما يليق بمن يصيبهم داء الحكمة: لا يتسع العمر الآن لإغضاب من تحب.
فى عيد الميلاد السابع للبوابة، يجب علينا أن نحتفل، لكن: كيف يكون الاحتفال؟. إنه بالتطلع إلى الأفضل والأنضج، وبالاستمرار فى مقاومة الفاشية الدينية والتبشير بمصر المدنية الديمقراطية.

أتساءل: هل يمكن لشهادة المحب أن تكون مجدية دالة؟ وأجيب: لا يمكن لشهادة المحب إلا أن تكون هكذا.