رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مفكرون خالدون|| أنور عبدالملك والمشروع الحضاري

المفكر أنور عبدالملك
المفكر أنور عبدالملك
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعد أنور عبدالملك، أحد كبار المفكرين الاجتماعيين المصريين والعرب، وينحدر من أسرة أرستقراطية واعتنق العمل السياسى مبكرا في عام ١٩٣٨، وحصل على إجازة الآداب في الفلسفة من جامعة عين شمس ثم على الدكتوراة في علم الاجتماع من جامعة السوربون في باريس.
وهو من ممثلى الاتجاه النقدى الأيديولوجى للهيمنة الثقافية الغربية، يستند فيه إلى التفكير الماركسى ومقولاته ومكوناته باعتبارها الوسيلة للتحرر من التخلف والتأخر التاريخى وتحصيل النهضة العربية. إلا أن ماركسية عبدالملك تتمتع بروح الخصوصية والأصالة والهوية القومية، فهى ليست ماركسية تاريخانية على غرار عبدالله العروى النافية لدور التراث وإنما هى ماركسية تجمع بين الخصوصية والمجتمع القومي، وبين الهوية والمغايرة، وبين منجزات الآخر وإبداع الذات العربية.
وترك أنور عبدالملك ترسانة معرفية من الكتب والأطروحات المعرفية المستقبلية، مكّنته فعلًا من أن يظهر كاتبًا مؤسِّسًا، موسوعيًا وصاحب مشروع حضارى متكامل، منها على سبيل المثال لا الحصر: «دراسات في الثقافة الوطنية». «الفكر العربى في معركة النهضة». «في أصول المسألة الحضارية». «من أجل إستراتيجية حضارية». «الإبداع والمشروع الحضاري». «تغيير العالم». «مصر مجتمع يبنيه العسكريون». «الجيش والحركة الوطنية». «ريح الشرق». «الشارع المصرى والفكر». «الطريق إلى مصر الجديدة"...إلخ. ومن يقرأ هذه الكتب وغيرها لأنور عبدالملك يلحظ أن الرجل قد تجاوز فيها المصرية والعربية إلى العالمية، محققًا بذلك رؤية شافية من المأزق السياسى والحضارى الذى «نتخبط فيه كعرب مأسورين إلى الدائرة الاستعمارية الغربية منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية وحتى اليوم». وهو لأجل ذلك دعا ومنذ مطلع السبعينيّات من القرن الفائت للالتفات إلى الدائرة الحضارية الشرقية الكبرى مختزلةً في الصين واليابان لنتعلّم منهما شقّ طريقٍ نهضوية استقلالية عن الغرب الذى ما انفك يكبّلنا في كلّ مرحلة تاريخية حديثة نتصوّر واهمين خلالها أننا حققنا فيها شيئًا من السيادية والاستقلال.
كما دعا عبدالملك إلى الاستفادة ممّا سمّاه «الدوائر الجيوثقافية» متمثلةً بـ «منظمة شنغهاى للتعاون» و"منظمة آسيان لأمم جنوب شرق آسيا». ثم لاحقًا «منظمة دول أمريكا اللاتينية» والتجمعات الاقتصادية الصلبة مثل ميركوسور، وكذلك «الاتحاد الأوروبي» نفسه؛ وذلك كله لمواجهة المشروعات والأطماع الكبرى للولايات المتّحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط؛ فبغير قراءة تجربة الشرق البعيد الناجحة، لا يمكن للعرب والمسلمين أن يحققوا نهضة حقيقية ومتوازنة في منطقتهم ذات البعد الاستراتيجى الخطير كونها تشكل قلب العالم ومصدر ثرواته.
ويسعى أنور عبدالملك من خلال ذلك إلى تأسيس وجهة نظر فكرية تحاول استرجاع البعد الحضارى لمشروع النهضة العربية، عبر إعادة النظر في تداول وصياغة بعض المفاهيم التى لم تكن متداولة خاصة في أوساط دعاة الحداثة والتنوير، مثل الخصوصية والأصالة والاستمرارية التاريخية، والنهضة الحضارية، ويتناول، عبدالملك، هذه القضايا بلغة سوسيولوجية واضحة ويضعها ضمن رؤية فكرية وحضارية لمناهضة الهيمنة الغربية على المستويين الفكرى والأيديولوجي، معتبرا أن المسألة الأساسية الآن هى الانتقال من التدهور الحضارى إلى النهضة الحضارية. ذلك أن إشكالية حركة التحرر في الوطن العربي، بنظره، ليست إشكالية الانتقال من مرحلة الاحتلال والتبعية٫ والرجعية إلى مرحلة الاستقلال والتحرر والثورة الاجتماعية، إنما هى بالأساس الانتقال من التدهور الحضارى إلى النهضة الحضارية.
وعلى هذا الأساس، انخرط أنور عبدالملك، في معارك الاجتماع والسياسة والتاريخ للحاضر العربى طامحا للنهوض الحضارى بالإنسان العربى عبر التأمل الأيديولوجى وموظفا الأفكار والنماذج على أساس من التحليل السوسيولوجى والثقافي، وبنزعة ثقافية قومية أكثر منها مذهبية. فلقد استمد عناصر بناء فكره من قراءاته للتراث النهضوى والإصلاح الحديث، أى من خلال تجربة محمد على وإبراهيم باشا والطهطاوى وعبدالقادر الجزائرى وعبدالكريم الخطابى في المغرب. فهؤلاء وغيرهم أسهموا في تشكيل رؤيته الفكرية ومشروعه النهضوي.
ولعب السياق الاجتماعي والثقافى والسياسى والأيديولوجى العربى دورا كبيرا في بناء المشروع الفكري، عند أنور عبدالملك، وتصوره للمجتمع والنهضة والثورة. فمنذ عام ١٩٥٢ بدأت القيم الفكرية والسياسية، وبالتحديد قيم التغير والتجديد، تتضح في أفق الثقافة المصرية بعدما عانت الكتابة النهضوية من آفة الانتقائية والتلفيقية بين أفكار وفلسفات الغرب وحمولة مفاهيم التراث العربى الإسلامى المثقل أنطولوجيا ومعرفيا بالموروث الديني، وهو ما جعل أنور عبدالملك يسعى إلى بناء فلسفة للثقافة القومية.
عملت قراءات أنور عبدالملك للتراث النهضوى والإصلاحى الحديث في صياغة فكرة وتشكيل رؤيته الفلسفية والفكرية المستقبلية. إضافة إلى تمكنه من قراءة تيارات الفكر العربى الأيديولوجية التى حاولت تفسير الواقع ومعطياته، سواء تيار الأصولية الإسلامية الذى ينطلق من الماضى التاريخى من دون تجاوز الواقع وتحولات العصر الحديث الذى حاول أن يزين خطابه بدمج بعض الأفكار والمفاهيم الجديدة، لكنه لم ينجح، فبقى تيارا محافظا يستحضر جدل الثابت والمتغير، أو تیار العصرية الليبرالية الذى بقى ينشد نهضة الحضارة الغربية بحيث يسمح قليلها بتجديد كل أبعاد الوجود في العالم العربى لكنه أيضا انتكس.
كما يرى عبدالملك، أن «الواقعية السياسية التى قادت إلى التعددية كانت ولا تزال هى المفتاح، فتغيير العالم في حاجة إلى صياغة مشروع جديد، يتكون في واقع الأمر من عدة مشروعات حضارية وفى مقدمتها الدوائر الحضارية والجيو - ثقافية التكوينية الكبيرة، ابتداء من تفاعل وتواكب مختلف المدارس التكوينية الأصلية والعمل لها، ويقدم رؤى جديدة، تشارك في رؤية عالمية جديدة، ونتيجة لذلك يجد عبدالملك، أن «عمق المجال التاريخى الفريد لمجموعة المجتمعات والقوميات التى انصهرت في بوتقة الأمة العربية لعب دورا حاسما، وكاد أن يلعبه في التعجيل ببلورة هذه الوحدة المتجانسة وتأصيلها عبر أجيال المواجهة، من هنا، فإن المشروع الحضارى للأمة العربية الذى يقترحه عبدالملك يقوم بالأساس على نهضة مصر والعرب، وهذا لا يتحقق، بنظره، إلا عن طريق تفاعل الذات، أى الخصوصية الحضارية مع الآخر. تلك الخصوصية التى تعنى «التمايز بدلا من الحصر النمطي، وذلك عبر المنهج الأمثل للتفاعل بين الحضارات، وهذا المنهج هو منهج «التثاقف» بعيدا عن الحصر النمطي، معتبرا أن هويتنا الحضارية كمدخل للتفاعل الحضارى هى الاعتزاز بالذات وبالخصوصية الحضارية الذى يمثل القاعدة التى نستطيع على أساسها أن ننتقل إلى الاعتماد على الذات، الذى هو رصد كل الإمكانات والعوامل الفاعلة في مجتمعاتنا المعاصرة القادرة على صيانة جوهر شخصياتنا الحضارية من ناحية، والتفاعل الذكى النقدى مع جميع معطيات العالم المحيط بنا حسب احتياجاتنا وأولوياتنا.