رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم (10)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ونمضي مع علي بن محمد، قائد ثورة الزنج، وهو يحقق بغلافه الديني وبغلافه الاجتماعي انتصارًا بعد انتصار. وانتصرت قواته من موقعة لأخرى؛ فأقام دولته التي فاقت قوتها كل ما عرفته دولة الخلافة العباسية من ثورات وانشقاقات، حتى أن المؤرخين المشهورين، والذين كانت الدنيا عندهم هي الإمبراطورية العباسية، قالوا إن “,”الزنج قد اقتسموا الدنيا كلها، واجتمع إليهم من الناس ما لا ينتهي العد والحصر إليه، وكان عماله يجمعون له الخراج حتى خاف الناس على ملك بني العباس من الانقراض“,” [الجاحظ – ثلاث رسائل – رسالة فخر السودان على البيضان – تحقيق فإن فلوتن (1903) – صـ58].
وأقام علي بن محمد عاصمة لملكة أسماها “,”المختارة“,”، أنشأها في منطقة تتخللها فروع الأنهار. وأقام مدنًا أخرى، وتمدد حكمه إلى مناطق ومدن عديدة، مثل البحرين والبصرة والأيلة والأهواز والقادسية وواسط وجبنلاء وباذاورد والنعمانية والمنصورة وخوزستان وعبادان، وعديد آخر من المدن، وأغلب سواد العراق“,” [ابن جرير الطبري – تاريخ الرسل والملوك – المرجع السابق].
واستمرت الحروب بين جيوش علي بن محمد وجيوش الخلافة لأكثر من عشرين عامًا، بلغ فيها العنف مبلغًا غير مسبوق، حتى أن المؤرخين الموثوق بهم يصلون برقم القتلى في هذه المعارك إلى نصف مليون قتيل.
ثم ما لبثت الثورة أن فقدت قوة دفعها، وتحولت أطروحاتها إلى عوامل هدم داخلية؛ فتهاوت تحت ضربات جيش “,”الموفق“,” أخي الخليفة المعتمد. وحاصر الموفق عاصمة الزنج لأربع سنوات، وكانت دولتها استقلت عن دولة الخلافة، وكان لها جيش قوي تحت حكم أحمد بن طولون [220 – 270 هـ]، وإذ أرسل ابن طولون جيشه لفتح الشام بقيادة قائد اسمه لؤلؤ، وكان حبشيًّا، وخان سيده وانضم إلى جيش الموفق، واستمرت دولة الزنج تقاوم حتى 270 هـ، فكانت أكبر ثورات الحكم العباسي وأخطرها [موسوعة الحضارة العربية الإسلامية – الجزء الثاني].
وهنا يثور التساؤل حول أسباب انهيار هذه الثورة ودولتها.. ويحاول ابن خلدون تفسير أسباب الثورة وأسباب انهيارها قائلاً: “,”من الغلط في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال تبدل الأعاصير، وهو داء شديد الخفاء؛ إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يتعظن إلا الآحاد من الخليقة؛ ذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدور على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما اختلاف بين الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. سنة الله قد خلت في عباده“,” [ابن خلدون – المقدمة – الجزء الأول – طبعة 3 – صـ 194] . لكن هذا التفسير المعقد لغويًّا لا يقدم لنا تفسيرًا مقبولاً.. فلماذا إذن انهارت دولة الزنج؟
-أولاً: إذا كان لجوء علي بن محمد إلى الزنج والعبيد ليدعم بهم ثورته، وقد دعموها وكانوا سببًا أساسيًّا في انتصارها؛ فإن التمادي في الاعتماد على الزنج واستمرار انحياز الوحدات الزنجية في جيش الخلافة إلى الثورة في كل صدام، أدى إلى مخاوف شديدة لدى العرب الموالين لعلي بن محمد والمشاركين معه في الثورة، ففترت عزيمتهم وحماسهم لثورة أصبحت زنجية بالأساس، بل وخاصموها وأسهموا في مواجهتها.
-ثانيًا: إن زهو الانتصارات وتمادي الخصومة وهيمنة الزنج دفعت جيوشهم في خضم المعارك إلى ارتكاب أعمال منكرة وبشاعات فاقت كل تصور، وارتكبوا ذات ما كانوا يشكون منه، فعند استيلائهم على البصرة أعملوا القتل الوحشي والنهب والسلب، وقتلوا من سكانها، وهم في أغلبهم من العرب، 300 ألف إنسان، وأسروا الأطفال، وسبوا النساء، واغتصبوا الأبكار والحرائر، فانفض العرب عن الثورة وعن دعوتها، بل وناصبوها العداء.
-أما علي بن محمد، الذي تقدم لأتباعه كواحد من سلالة علي بن أبي طالب، فقد تمادى في الادعاء وتلبسته حاله من إيهام الأتباع بأنه في مرتبة فوق البشر. يقول الطبري، وهو من أكثر المؤرخين كتابة عن الزنج وثورتهم، ومن أكثرهم ميلاً لهذه الثورة، حتى قيل عنه إنه مؤرخها المعتمد أن “,”أتباع علي بن محمد كانوا يعاملونه كنبي، وكان يعدهم بالجنة فيصدقونه ويخضعون له تمامًا“,” [ابن جرير الطبري – المرجع السابق].
وتمادى علي بن محمد فادعى العلم بالغيب، وزعم أن وحيًا يأتيه من السماء، وأن الملائكة تقاتل معه. وأكد لأتباعه أن من يحاربهم كافر وقتله حلال، واستحل دماء مخالفيه وأموالهم ونساءهم. وعامل الأسرى كعبيد، ومنح رجاله المقربين، والذين كانوا عبيدًا قبل أن يحررهم، عددًا من الأسرى ليستخدموهم كعبيد، فحولهم من عبيد إلى ملاك للعبيد، وحثهم على ظلم ما تملكوه من عبيد، وأظهر نزعة عنيفة ومتعصبة، وخالية تمامًا مما قال به في بداية دعوته من عدل ورحمة [للتفاصيل راجع : موسوعة الأديان الميسرة – دار النفائس- بيروت صـ 1282].
وهكذا نكتشف الخيط الرفيع الفاصل بين الإسلام والتأسلم.. فالإسلام على يدي علي بن محمد كان عدلاً فتحول إلى ظلم، والاستعباد كان محرمًا فصار مكرسًا، والغلاف الديني كان تعبدًا فتحول إلى تأله وادعاء مشين. وهكذا تحول إسلامه إلى تأسلم.. وصار نموذجًا لممكنات تكرار مثل هذا التحول.