رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

(عسل أسود).. والوطنية الناعمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هناك العديد من الأعمال الفنية التى لا تسقط من الذاكرة مهما تقادم عليها العهد، ومن هذه فيما أرى فيلم (عسل أسود) الذى مر على عرضه عقد من الزمان ولا يزال يحظى بالقبول كلما تكرر عرضه. وأحسب أن السمة الغالبة التى ستجعل منه عملًا راسخًا في الوجدان القومى كونه ينتمى إلى ما يمكن أن نطلق عليه «الوطنية الناعمة» تمييزًا لها عن الأعمال المرتبطة بالمواجهات القتالية التى تستدعى للذاكرة أسلوب مرحلتها المتمثل في (جماهير الشعب تدق الكعب وتقول كلنا جايين). ذلك الأسلوب التعبوى الذى حل محله الشعور العقلانى في مواجهة مشاكلنا والقدرة على طرح الحلول رغم مرارتها المرحلية في واقعية مستحبة لبعدها عن الجفاف. ومن ذلك بالطبع فيلم «عسل أسود» الذى يعالج مشكلاتنا الحياتية بصبر وأناة وبأسلوب يبعد عن الحماسة ويميل إلى المنطقية دون أن يخرج عن المرتكز الرئيسى في حب الوطن وهو قيمة الانتماء.
ولعل أول مفاتيح النجاح أن تبدأ بعرض السلبيات وتجعل الكل شركاء في استشعارها ومن ثم استنفار الضمير الجمعى لمواجهتها ومن ثم حلها. من هنا تأتى قضايا كالبيروقراطية والفساد الإدارى الذى تم عرضه بشكل واقعى وإن جاء في المقابل النموذج المرتجى للموظف الشريف المخلص والمتعقل في تقدير الأمور. ولو خرجنا للدائرة الأوسع لوجدنا أن بطل الفيلم مثل رمانة الميزان أمام جموح البعض نحو السفر لمجرد السفر وبين الجيل القديم المتمسك بقيمة التواجد على أرض الوطن وألا تصبح عنده مجرد مقبرة للمثوى الأخير لجسده بعد رحلة الغربة الشاقة. وهنا تأتى قيمة البطولة في العمل الفنى لكونها هنا تمثل موقعًا حياديًا بين فصيلين أو بالأحرى جيلين، بعيدًا عن المفاهيم المتواترة لصراع الأجيال أو تغليب زمن على آخر وفق مفهوم «الزمن الجميل» الذى بات شائعًا بشكل يقترب من الاحتكارية لكل جيل تلو الآخر. ومن هذا المنطلق العام تأتى المشكلات التى صارت اعتيادية من كثرة مواجهتها في حياتنا اليومية منها مثالًا لا حصرًا السكن والتعليم والمواصلات بل واختلال مفهوم السيادة لدى بعض الفئات ذات التعامل اليومى مع الشارع المصرى، في مقابل حقوق الإنسان البديهية بحكم المواطنة. لذا جاء المقارنات وأحيانًا المقاربات بين جوازى السفر الوطنى والأجنبى وكذا تباين أساليب المعاملة بين المواطن والأجنبى لتلقى ضوءً كاشفًا على هذه الجزئية تحديدًا بشقيها السلبى والإيجابى. ولم تغب أيضًا في ثنايا العرض مفاهيم الفهلوة والحلول العملية غير العلمية التى تعكس حالة ذهنية عامة يحاول فيها صاحب المشكلة إقناع نفسه بقدرته ذات (السبع صنايع والبخت الضايع).
ولقد جاءت القيم المرتبطة بالوطنية الناعمة في شكل حلول لم يتم فيها تبنى الجانب التقريرى المباشر، وأحسب أن هذه عبقرية تحسب لصناع العمل الذين رأوا فيه أهمية عدم إشعار المتلقى بوطأة الحل أو الهدف من العرض برمته. إذ على الرغم مما واجهه بطل العمل من مشكلات سواء بشكل مباشر أو بالتوحد مع أفراد محيطه الضيق جدًا، إلا أن هذا المحيط قد بات لا حديًا عندما أصبح كل مشاهد لديه مشكلة أو أكثر يرى نفسه في صاحبها وكأنه هو. لتأتى الحلول بإنسيابية واقعية محببة عندما تتسع شراكة المواجهة ليدرك الجميع قيمة الوقت والعلمية وكذا الإنسانية في مفردات الحل.
لقد أعاد (عسل أسود) للنوستالجيا أو الحنين للماضى بريقها الآخاذ، بعدما باتت كلمة «قديم» في قاموس الجيل الجديد وكأنها عورة ماضوية حين غُرر به في ملكية مستقبل لم يمنح صكوكها بعد. هذه الصكوك المتمثلة في تفعيل قدراته بالتجمع الإيجابى الذى يثرى معارفه وبالفن الراقى الذى يهذب مشاعره وبالقدوة الحقة التى تجعل من مفهوم المثل الأعلى قيمة في ذاتها وتجعل من قيم العمل الجاد والإخلاص والتضحية والإيمان أسسًا للانتماء الحقيقى. ليصبح معها هتاف «مَصْر.. مَصْر» لا يهز فقط جنبات الاستادات الرياضية بل يهز وجدان كل مصرى مخلص آمن بوطنه، وأن لذة العطاء ذات مذاق عسلى خاص. وسواء كان أسودًا أم أبيضًا لا يهم، مادام يحمل في النهاية السمة المستدامة «صنع في مصر».