الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مهنة «الحُكَمَه» تنزف أبناءها وتحتضر!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جاء إلى مكتبى ببوسطن يبغى النصيحة. طبيب مصرى شاب غاية فى الأدب والذكاء وما زال فى سنة الامتياز وله نيابة مضمونة فى جامعته، ولكنه قرر أن يهجرها ويأتى لأمريكا ليتدرب فى مستشفياتها راغبًا فى الهجرة. سألته: لماذا؟ قال بحزن لم تعد الجامعة تغرينا كما كانت فى عصركم، وكثير من زملائى سافروا إلى إنجلترا وأمريكا وغيرهما من الدول. ذكر لى المرتبات المحزنة، وذكر لى المستقبل المبهم، وذكر لى ضياع الأمل واليأس، وفتح بكلامه المنمق جرحًا عميقًا يكشف لنا بأسى مشكلة كبيرة فى النظام الطبى المصرى، الذى أصبح للأسف طاردًا لأفضل أبنائه. وعلى نفس الكرسى فى مكتبى أيضًا جلس مسئول كبير يدافع عن أهمية سفر الأطباء الشباب للخارج مقابل أن يدفعوا المقابل المادى لما تكلفوه فى دراستهم حتى تخرجوا، وذكر اقتراح مبلغ نصف مليون جنيه. سألت الطبيب الشاب: هل تعرف كم تكلفت مصر لتتخرج؟ قال كم؟ قلت عشرات بل مئات الملايين، فمن بين كل عشرة آلاف طالب صرفت عليهم الدولة وصرف أهلهم مثله حتى تخرجوا من الجامعة يخرج طبيب واحد مثلك على قمة الهرم ليسافر ويترك بلده تنزف كل هذه الأموال والعقول! حوارى معهما فى قاع الهرم وقمته كشف لى كيف تركنا هذه المهنة الكريمة لتحتضر ثم نطالب الآن بفتح كليات طب جديدة لسد العجز ليتخرج منها نفس الشباب الذى سيهجر يومًا بلده مثل هذا الشاب!
مر على خاطرى شريط ذكريات مهنتى ليوضح لى كيف كنا وكيف أصبحنا ولماذا؟ ففى الماضى كان الدخول إلى رواق الأطباء له احترامه ووقاره. وكان بإمكان الطبيب العيش فى مستوى كريم تعويضًا على السنين العديدة والمُجهدة التى قضاها فى التعليم والتدريب. وكان أوج المهنة وكمال بريقها فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حين كان التناسب متزنًا بين عدد المرضى وعدد الأطباء وعدد الأسرة بالمستشفيات. ثم دخلت الدولة فى مرحلة من التخبط وعدم الإدراك ثم الترنح وفقدان الوعى منذ منتصف السبعينيات، فلا سياسة واضحة للصحة فى مصر ولا تخطيط يذكر للعمل الطبى فى ربوع البلاد مع ميزانية ضعيفة لا تغنى ولا تسمن من جوع. وتم فى هذا الزمن التوسع فى مستشفيات تحت السلم التى تفتقد لمعظم مواصفات السلامة والأمان بعد أن عجزت المستشفيات الحكومية والجامعية المميزة عن استيعاب عدد المرضى المتزايد مع زيادة السكان. وتوجه معظم الأطباء للعمل فى العيادات الخاصة كمصدرهم الأساسى للرزق. ومع الزيادة الكبيرة فى عدد الخريجين بدأنا نرى المعاناة واضحة فى الجيل الجديد من الأطباء، والتى دفعت البعض منهم لتغيير مهنته! ورغم أن بعض الأطباء قد ازداد بريقًا، خاصة أعضاء هيئات التدريس بكليات الطب، وجد على النقيض الكثير من شباب الأطباء الطريق مسدودًا أمامهم لتنمية دراستهم وتدريبهم! ومع موجة التخبط والإهمال للسياسات الصحية أُغلِقت معظم الوحدات الصحية الريفية، والتى أنشئت فى الستينيات أو جُرِدت تمامًا من إمكانياتها وظلت اسمًا بلا قدرة. وجاءت موجة ثانية من تخبط السياسات وفشلها دفعت بشباب الأطباء وحتى كهولهم للسفر للعمل بالدول العربية سعيًا وراء الرزق الكريم ولم يعد معظمهم حتى الآن. ثم جاءت الموجة الحالية لتتميز بهجرة الأطباء الشبان للغرب. ومهنة الطب لم تسلم مثل غيرها من المهن من الفساد الذى تغلغل فى أواصر المجتمع فى العقود الأخيرة رغبة فى المال، فبدأت قلة من ذوى النفوس المريضة ممارسة نوع من الطب هو أقرب للدجل منه للعلم، فوجدنا طبيب الأوزون والليزر والأعشاب وخرط الجسم والشفط والنفخ، وأصبح العديد من اليفط المبالغ فى حجمها تحمل وصفًا لمؤهلات لم ينزل بها الله من سلطان، ولا نعرف حتى ما معناها أو مدلولها. ودخل العديد من الأطباء معترك السياسة خاصة تحت عباءة الجماعة البائسة والمنحلة، وفتحت المساجد والزوايا مستوصفات داخلها، وهو نظام لا يوجد له مثيل فى أى من دول العالم. أصبحنا فى مولد طبى بلا ولِى وسيرك صحى بلا رابط. ولولا تماسك فئة من الأطباء المنزهين عن الغاية، والذين يقدسون مهنتهم السامية والجليلة وأكثرهم من العاملين فى المستشفيات الجامعية، وأعضاء هيئات التدريس فى كليات الطب، والرعيل الأول من الأطباء من ذوى الخبرة والحنكة، لانهارت المنظومة الصحية بأكملها فى هذا المناخ العبثى. وفى كل زيارة لى لمصر كنت أشعر بالحزن والأسى وأنا أسمع صرخات أبنائى من شباب الأطباء وشكوى زملائى من كهولهم وحزنهم الشديد على ضياع بريق المهنة التى دخلوا أقداسها آملين فأصبحوا نادمين وحالمين فأصبحوا يائسين. والجميع بلا استثناء يتمنون وبصدق حقيقى الخروج من هذه الدوامة. فالطبيب المصرى عملة نادرة تبرق وتُدهش حين تضعه فى منظومة صحية جيدة خارج مصر أو تضعه فى أحد المراكز المتخصصة والمميزة داخل جامعات مصر، كمراكز جامعة المنصورة الناجحة. ورغم بؤس الحال والكمد على مهنة تحتضر، إلا أننى ما زلت حالمًا بحتمية وضرورة التغيير فى هذا القطاع المهم، وأرى بوضوح إمكانية حدوثه. فالقطاع الطبى بمصر يحتاج فقط لفارس شجاع يحمل سيفه ليعدل به المعوج وقائد يضع مع مجلس أعلى للصحة خطة واضحة المعالم ومرحلية التطبيق لإعادة هيكلة المنظومة الطبية كما فعلت العديد من دول العالم التى زرتها لنعيد مصر بإيدينا وعقولنا لتتنافس على المستوى العالمى، وننقذ متكاتفين هذه المهنة الكريمة والسامية من الضياع، ونحبب أولادنا فيها، ونزرع الأمل فى قلوبهم ليثمر علمًا وعملًا، ونعيد أطبائنا مجتمعين إلى مقعد الحُكَمَة ووقاره ونقنع هذا الشاب وغيره أن فى مصر مكانًا مرموقًا له....!