رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأديرة.. أنشطة تجارية واقتصادية وزراعية ودور عبادة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يبتعدون عن صخب الحياة وضجيجها فيذهبون بعيدا إلى لقاء ربهم أحياء، حفاظا على دينهم فكانت الانطلاقة من الصحراء الشرقية التى اتخذوها ملجأ لهم، حيث أقيمت أقدم الأديرة القبطية لتضيء بأنوارها هذه المنطقة الصحراوية، وأهمها دير الأنبا بولا بالبحر الأحمر، ويقع من الجنوب لدير الأنبا أنطونيوس، إلى أن جاء دير أبو مقار بوادى النطرون، ليكون منارة في كل ما يحتاجه الإنسان من عمل وعبادة وخدمة إلهية ودنيوية.
فمصر هى أول دولة في العالم تقوم بتأسيس الرهبنة، والتى تعود فكرته إلى القديس أنطونيوس المصري، الذى جعل من الدير مكانا للعبادة والرهبنة، والدير هو مكان تقيم فيه مجموعة من الرهبان أو الراهبات للعبادة والوحدة مع الله، وبه كنيسة أو أكثر، ولكل دير رئيس، وهو حاليًا يكون حاصلا على رتبة الأسقفية، ومهما كانت تلك الأديرة بعيدة عن العمران والمناطق الآهلة بالسكان، إلا أن ساكنيها يجدون الجنة في ريحها هناك في حضرة الرب، إلى أن تطورت الفكرة لتصبح أيضا أديرة بها أنشطة زراعية واقتصادية وربحية حتى يصبح كل راهب أو راهبة له دخله الخاص من العمل القائم به.
قال ماجد وديع نصيف الراهب عضو المجلس الاستشارى لوزير الآثار بالمتحف القبطي، وكاتب وباحث في التراث، وهو يعمل الآن مهندسًا معماريًّا، ورئيس جمعية المحافظة على التراث العربى: أصبحت الأديرة الآن مؤسسات خدمية، تقدم خدمات متنوعة على مدى سنوات عديدة، أكسبت الكنيسة شهرة واسعة مثل الأثاث المنزلى إلى جانب المنتجات الزراعية، واللحوم والدواجن، حيث إنها تباع إلى المستهلكين في مصر بأسعار رمزية أقل من ثمنها الأصلي. ونتيجة لجودة المنتجات المقدمة وسعرها، صُدرت إلى دول المهجر. ومن ضمن المنتجات ذائعة الصيت، والتى يبحث عنها القاصى والداني، العسل العالى الجودة. بالإضافة إلى أن الأديرة تقوم باستصلاح مساحات واسعة من أراضيها، وأصبحت الآن ساحات عمل لخدمة المواطنين معتمدة على رهبنة الشباب الذين يعملون بشكل متواصل مثل خلية النحل لضمان جودة المنتج والحفاظ على أسهمهم في السوق وسط المنافسين والمحتكرين والذين يغالون في رفع أسعار منتجاتهم، فمثلا عند زيارة الرئيس الراحل أنور السادات دير أبو مقار في نوادى النطرون، وجد محصول بنجر السكر؛ فصرح بمنح الدير ثلاثة آلاف فدان للتوسع في إنتاج هذا المحصول.
وقال صبرى أيوب، المهندس الزراعى المشرف على الوحدات البيطرية الخاصة بالأرانب في دير أبو مقار، إن الأديرة القبطية في مصر تحمل على قوتها أكثر من ٧٠٠ عامل في دير أبو مقار، وبكل دير آخر تجد لا يقل عن ١٠٠ عامل، فأصبحت الآن خط الدفاع الرئيسى في مواجهة البطالة، وذلك يرجع للقدرة على العمل والإنتاج عشرة أضعاف الشخص العادى بحكم حياته الصحراوية، حتى أن نجل يوسف والى سبق وقال أعطوا الصحراء للرهبان وهم يعمرونها، على خلفية فشل الأعراب في إنشاء مزارع قادرة على منافسة الأديرة.
واستطرد، الأديرة لديها فضل كبير في توريد المحاصيل الزراعية عالية الجودة، سواء في الداخل أو الخارج، وبأسعار غير قابلة للمنافسة، حيث يعد دير أبو مقار من أشهر الأديرة التى تصدر الفاكهة لأوروبا، خاصة أن العاملين به ابتكروا طريقة تنتج لهم أنواعا جديدة من العنب المهجن عبر الصوب الزراعية، ووفقا للمقاييس العالمية، ومن هنا نجد أن المصريين يستطيعون شراء المنتجات الصيامية وغير الصيامية بسعر أقل من الخارج وبجودة أعلى، وأشرف على بطاريات الأرانب بنفسى وأرعى غذائها الطبيعى ١٠٠%١٠٠، ومن هنا أتاحوا الطمأنينة للمواطنين أن السوق ليست حكرا على أى تاجر، وأكمل أن المنتجات والمحاصيل تعتمد في الأساس على مجهود الرهبان، ولكن في بعض الأحيان تلجأ إدارة الدير إلى خبراء أجانب لمراقبة سير العملية الإنتاجية على أكمل وجه، إلى جانب موزعين يقومون بعملية تسويق المنتجات على تجار الجملة والتجزئة، بالإضافة إلى أن الأديرة قامت بتوسيع دائرة العمل، وإنشاء ورش خراطة ونجارة لصناعة أثاث المنزل والأيقونات الخشبية التى تعتمد أكثر على الصبر الذى يتمتع به الرهبان عن غيرهم وأيضا الدقة العالية في الصنع، ولكن للأسف أسعار المواد الخام في زيادة مستمرة، مما يكلفنا عبئا ماديا جديدا نحاول بقدر الإمكان ألا نشعر به عملاءنا؛ لأننا في نهاية الأمر نسعى لتقديم سلع خدمية مدعومة.
وفى سياق متصل، قال هانى فايز، الخادم الكنسى بدير أبو مقار منذ نعومة أظفاره، إن الرهبنة والخدمة الكنسية كانت بداية من الأنبا أنطونيوس، وهو أول من ترهبن بعد زيارته لإحدى الكنائس، فكانت الرسالة إلهية له من الله عندما ألهمه بصناعة الأحذية والشنط والمصنوعات الأخرى من جريد وزعف النخل، فمن هنا جاءت فكرة أن يعمل الرهبان والراهبات كغيرهم من الآخرين، وأذكر أن دير أبو مقار يعتبر المورد الرئيسى للحوم، خاصة أن به مساحة كبيرة مخصصة لتربية الماشية، وتشرف عليها لجنة من الأطباء البيطريين، وأضاف فايز قائلا: يتوافد على الدير العديد بصورة يومية نظرا لثقتهم في جودة لحومه؛ لأن الراهب المخلص لله يصعب عليه الغش أو التزوير، فمن هنا جاءت الثقة بين المواطنين سواء مسلمين أو أقباطا في منتجات الأديرة القبطية، بالإضافة إلى انخفاض أسعارها عن أسعار لحوم السوق والجمعيات الاستهلاكية، بينما يقوم رهبان دير مار مينا بزراعة محاصيل من الزيتون نظير مرتبات شهرية يتقاضونها من إدارة الدير، في حين يتم إنفاق بقية الواردات المادية على الأسر الفقيرة والمرضى.
وكشفت إحدى العاملات بمنفذ بيع للأكل النباتى لـ«البوابة نيوز»، عن أطعمة تصنع بمكونات نباتية تعطى مذاقا قريبا من الحيوانية، وتزدهر فترة بيعها في أيام الصوم المتقطعة على مدى العام، خاصة الصوم الكبير ومدته ٥٥ يوما، وتكشف أحدث صيحات المأكولات الصيامى، هى «الكفتة، الشاورمة، اللانشون، الكوبيبة، الحواوشى، والبيتزا، بخلاف الحلويات التورتة والجاتوهات».
وأضافت الأمر لم يقتصر على منافذ بيع الكنيسة، فتجد الأفران الخاصة بالمخبوزات وكبرى محال المأكولات فرصة الصوم الكنسى للتنافس على إنتاج أكل صيامى، وإن هذه التجارة لم تعد مقصورة على الكنائس فقط، فغالبية المحال الشهيرة العالمية تعرف جيدًا مواعيد الصوم، وتعد قائمة بالمأكولات التى ابتكرتها كل عام.
وتابعت: وتضع واجهات المحلات لافتات مكتوبًا عليها «يوجد أكل صيامى»، وأحيانًا تباع منتجات الحلوى الصيامى بالاتفاق، وأن المنافسة أصبحت كبيرة، حتى إن الأمر أصبح به جزء من الإبداع في استخدام الخامات، وطرق تشكيلها، وهو ما يحقق الهدف في النهاية لصالح الزبائن، الذين يحصلون على مأكولات ذات طعم جيد وقريبة من نمط حياتهم العادي.
فيما قال القمص عبد المسيح بسيط، أستاذ اللاهوت الدفاعى في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وكاهن كنيسة العذراء بمسطرد، في جزئية الأطعمة داخل الأديرة وصناعتها فقيام الرهبان والراهبات بالعمل أمر لا غرابة فيه، فذلك وفق تطبيق الدين، فالعمل عبادة كالصلاة والصوم، أما عن المنتجات الحيوانية بمكونات صيامى، ومن ثم فإن إعادة إنتاج الأطعمة الحيوانية المحرمة في الصوم، تفقده مغزاه وهدفه الحقيقى، وهذا يتنافى تماما مع هدف الصيام، فأحد أهداف الصوم القبطى هو أن يشعر الصائم بالجائع وفى قلبه رحمة تجاه أنه كان محتملًا أن يكون بديلا عنه، حيث تردد الكنائس ترنيمة «طوبى للرحماء على المساكين» طوال أيام الصوم، فمن هنا نتمنى زرع الرحمة والمحبة في قلوبنا ولا تنقلب العبادة إلى شعارات، وهى تجسد الهدف الرئيسى من وراء الصوم، وهنا فقط نريد أن يعى الصائم الشعور بالفقراء، معتبرًا أن تلك الفلسفة هى أبسط معانى الصوم، والتى تختلف عن فلسفة الصوم على مستوى النساك الذين يعتبرون فترة الصوم خلوة روحية للتأمل والتعبد، موضحا كلماته بأن تناول هذه المنتجات يفقد الصوم الهدف من ورائه، ومع ذلك لا أستطيع أن أصف من يتناول هذه الأطعمة بغير الصائم فهو صائم، ولكن عليه أن يتعلم الهدف الحقيقى من صومه وعبادته، حتى لا يقع في خطأ كبير وهو «التلاعب والحيل على العبادات»، مما يجعله سببا في توارث عادته من قبل أبنائه.
وأوضح كمال زاخر، الكاتب المتخصص في الشأن القبطي، متحدثا عن أحدث المأكولات التى تدخل فيها مكسبات الطعم والرائحة من اللحوم والدواجن في الأغذية التى يتم تناولها أثناء الصيام القبطي، بأن تناول مثل هذه المنتجات يفرغ الصوم من معناه، إذ تقوم فلسفة الصوم على كبح الشهوات الجسدية ومقاومتها وأبسطها شهوة الطعام، مؤكدا أن تناول منتجات مثل الكفتة والبرجر الصيامى يعد انحرافا عن فلسفة الصوم التى تقوم بمنع الأكل بإرادة إنسانية فهو ليس فرضا بل رغبة، وذلك إخلال بالمفاهيم المسيحية الأساسية في الكنائس التقليدية ومحاولة للالتفاف عليها، فكيف نجد أثناء الصيام البيتزا والحواوشى، والجاتوهات، فانتشار تلك الموضة خطأ كبير، رغم أن الصوم في المسيحية ليس فرضًا دينيًا، لكنه وسيلة لقمع الشهوات والزهد في المغريات والابتعاد عنها بكامل الإرادة، هنا تكمن العبادة، وحتى يقترب الناس من الله، ومع مرور الوقت تنوعت الأنماط الغذائية ولا خلاف في ذلك إذا كان الابتكار لا يخل بنوعية الطعام ومراعاة الحرام منها، وأصبح الأكل متداخلًا في صميم الحياة الإنسانية، وبالتالى أصبح الابتكار في الأصناف النباتية الخاصة بالصوم حاضرًا في رحاب الكنائس والأديرة ومنافذ البيع التابعة لكبرى المؤسسات الدينية المسيحية، ولم يعد الصوم يمارس بتقشف في الكثير من الأحيان، ففى العصور الأولى للمسيحية، كانت المأكولات تطهى بالملح والمياه، وبعدها أصبح استخدام الزيت في أضيق الحدود، ومع الوقت اجتاح السمن النباتى البيوت المصرية وبالتالى المسيحية، ومن هنا لا نجد خللا ما دام ذلك لا يحدث خللا في ما نقدمه وتنوع الاختيارات الغذائية والخامات المستخدمة في الأطعمة، دفع الكثيرين لاستغلال فترة الصوم في المسيحية لابتكار مأكولات شهية من خامات نباتية، وانتشرت موضة الأكل الصيامى، وازدهرت بالفعل هذه الصناعة في منافذ البيع التابعة للكنائس أو الأديرة.
وانتقد «زاخر» فكرة ترويج الأديرة لمثل تلك المنتجات؛ لأنه يبعد الدير عن مهامه الأساسية ويأخذه صوب عمليات البيع والشراء البعيدة عن الحياة الرهبانية، لافتا إلى أن بعض الأديرة لا تكتفى بإنتاج تلك المنتجات، بل أحيانا تلعب دور الموزع لمصانع أخرى من خلال منافذ التوزيع الملحقة بها، وأنا أرى أن دور العبادة للعبادة فقط.