الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ديناميكية الآراء السياسية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الأفكار والتوجهات السياسية للأفراد والجماعات ليست ثابتة ولا جامدة وإنما متغيرة بتغير الظروف الداخلية والخارجية، وعبر التاريخ الحديث والمعاصر تغيرت توجهات بلاد كثيرة ومن ضمنها مصر من الاشتراكية فى عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، إلى الرأسمالية (الانفتاح واقتصاديات السوق) فى عصر الرئيسين السادات ومبارك ونفس الشىء حدث للأفراد، فقد رأينا فى مصر أيضا رجالا دافعوا عن الاشتراكية وعندما تغير النظام، أصبحوا دعاة للرأسمالية، وعندما حكم الإخوان لمدة عام واحد، توجهوا إلى الإسلام السياسي.
ربما يحدث ذلك للتكيف والاندماج مع الظروف السياسية والاقتصادية التى تمر بها البلدان، كما حدث مع بلدان الاتحاد السوفيتى السابق عندما انهارت الشيوعية، وربما يحدث ذلك مع الأفراد كنوع من الاقتناع بضرورة التحرك والتكيف مع الظروف المحيطة، وربما يحدث ذلك أيضا كنوع من الانتهازية السياسية، وركوب الموجة الرائجة، والاستفادة الشخصية وتحقيق أكبر قدر من المنافع المادية أو الحفاظ على المناصب والمغانم وتوريثها للأبناء.
ولقد قابلت أشخاصا وتعرفت على أنماط من البشر خلال رحلة العمر، داخل وخارج مصر، ولم أجد لهم أى أيديولوجية فكرية ثابتة أو توجه سياسى أو دينى معين يمكن أن يؤثر فى قراراتهم ووجهة نظرهم تجاه الآخرين، ووجدتهم دائما موضوعيين فى الحكم على الأشياء، يدرسون المعطيات والظروف المحيطة والخلفيات التى تحيط بالحدث، ثم يصدرون قرارهم الموضوعى العقلانى العادل، وكأنهم قضاة فى المحكمة، لا يتحيزون لحزب أو دين أو لون أو جنس، أو أيديولوجية معينة، وهؤلاء هم فى الغالب كبار العلماء، ورجالات وسيدات تميزوا بقسط عال من التعليم والتربية والثقافة، ومثلهم مثل الأنبياء والصالحين، تجدهم يتعرضون للنقض والهجاء والقطيعة، خاصة من أصحاب الهوى والمصالح الشخصية والمتشددين والمتطرفين على مر العصور وفى كل البلاد. ولقد شرفت بمعرفة العديد من هذه القامات فى الداخل والخارج، خاصة من أساتذة الجامعات، وتعلمت منهم أن أكون موضوعيا وأن أحكم بالعقل والمنطق، وأن أعطى كل ذى حق حقه مهما كانت وجهة نظر الآخرين.
وأنا شخصيا تغيرت آرائى السياسية مع مراحل العمر، فقد كنت مفتونا ومعجبا بالفكر اليسارى وأنا طالب فى طب المنصورة، وكانت المفاهيم الاشتراكية المتمثلة فى المساواة بين البشر، والحق فى التعليم الجيد والخدمات الصحية الجيدة والوظائف العليا لأبناء الفقراء مثلهم مثل الأغنياء. وكان اليسار المصرى فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى يصارع التوجه القوى للتيار الديني، خاصة بعد تولى الرئيس مبارك الحكم وسيطرة التيارات الدينية على الجامعات والنقابات والمساجد. ولقد حاول هذا التيار اجتذاب الطلاب الجدد خاصة القادمين من الريف المصرى وأنا منهم، ولكن لم أكن من النوع الذى يمكن السيطرة عليه، ربما لتعدد قرآتى ورغبتى أن يكون لى رأيى الشخصى المستقل. وما زلت أتذكر زملائى من التيار الديني، خاصة السلفيين وهم يصفوننى بأننى يسارى معتدل، وهو الوصف الذى ما زلت لا أفهمه حتى اليوم!
وعند سفرى إلى إنجلترا والذى تزامن مع سقوط الاتحاد السوفيتى والانهيار الاقتصادى للدول التابعة له، ومع احتكاكى بالمجتمع الإنجليزي، شعرت أن الاشتراكية التى كانت تبهرنى ليست كلها مزايا، وخاصة بعد انهيار الفكر الشيوعي، وأن الرأسمالية ليست كلها مساوئ، خاصة بعد سيطرة القطب الأقوى وهو الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على قيادة العالم. ورأيت فى إنجلترا قمة العدالة والمساواة بين الفقير والغنى متمثلة فى نظام التأمين الصحى الشامل، وفى نظام التعليم قبل الجامعى الجيد، والذى تتيحه الدولة للجميع، بمن فيهم الدارسون الأجانب مثلي. وحتى بعد فرض رسوم على الطلاب للدراسة فى الجامعة، كنت أظن أن فى ذلك ظلم للفقراء، ولكنى تفهمت وجهة نظر الحكومة الإنحليزية، وهى ضرورة مساهمة الطلاب فى نفقات التعليم الجامعى للحفاظ على جودته، وفى نفس الوقت تمكين الطلاب الفقراء من استكمال دراستهم بقروض ميسرة من البنوك، يسددونها من دخلهم بعد انخراطهم فى سوق العمل وعندما انتهيت من دراستى الأكاديمية، وحاولت الالتحاق بالعمل فى التأمين الصحى البريطاني، انبهرت بنظام العمل وبالتنافسية والشفافية والمساواة والموضوعية عند اختيار الأطباء للوظائف، والتى مكنتنى من منافسة أبناء البلد، وأن أتفوق وأتقدم، دون إحساسى بالتحيز أو العنصرية أو التقليل من إمكانياتي. وقد تركت هذه الفترة تأثيرا واضحا على أفكارى بعد ذلك، وحاولت أن أكون موضوعيا فى أحكامى قدر المستطاع.
وعند عودتى إلى جامعة المنصورة، كانت أفكارى المتحررة من القيود الجامدة، واحترامى للنساء على نفس القدر مثلهن مثل الرجال، واعتراضى الشديد على ارتداء النقاب وحبس وجه المرأة خلف ساتر، خاصة بين الزميلات من أعضاء هيئة التدريس، سببا فى وصفى من بعض الزملاء من أتباع التيار الدينى المتشدد بأننى أصبحت علمانيا وعدوا للدين.
وعندما أنشأت جامعة المنصورة برنامج المنصورة مانشستر للتعليم الطبي، حاولنا أن نطبق قواعد المساواة المطلقة بين الطلاب وخاصة فى الامتحانات، ووضعنا قواعد عادلة وشفافة، وقررنا أن تكون جميع الامتحانات موضوعية، وقاومنا أى تدخل للعنصر البشرى فى الامتحانات، وكانت طب المنصورة أول من أدخل الامتحانات الإلكترونية وألغت الامتحانات الشفوية. ومرة أخرى لم يعجب بهذا النظام العديد من السادة أعضاء هيئة التدريس، وكانوا يلصقون كل نقيصة بهذا النظام الجديد، وبأنه ساعد الأغنياء على حساب الفقراء، واتهمونا بأننا دعاة للرأسمالية المتوحشة وأعداء للفقراء.
وأخيرا، عندما توليت عمادة كلية الطب، حاولت أن أكون موضوعيا وعادلا قدر المستطاع، ولم أهتم كثيرا وأنا أحكم بين الجميع، سواء من الطلاب أو أعضاء هيئة التدريس أو العاملين فى الكلية والمستشفيات الجامعية، وهم يقدرون بعشرات الآلاف، ببعض الموروثات من الواسطة والمحسوبية، وتصادمت مع بعض أصحاب المصالح وكانت النتيجة أن اتهمنى البعض بعدة صفات حسب خلفية كل منهم، مرة بأننى إخوانى، وأخرى بأننى ليبرالى، وفى مرات كثيرة بأننى رأسمالى وموال للغرب على حساب التقاليد العربية. ومع انتهاء مدة العمادة والعودة إلى عملى كعضو هيئة تدريس، وجدت احتراما وتقديرا وكلمات الإنصاف، حتى ممن وصفونى بكل الأوصاف السابقة وأنا عميد. ولهذا فقد أيقنت أن من يتصدى للعمل العام فعليه أن يكون موضوعيا وألا يعطى الكثير من الاهتمام لرؤية الآخرين، طالما أنه يراعى الله ويحًكم ضميره ويتوخى الحق والعدل والمساواة بين الجميع. وأدركت أن القوالب الجامدة والأفكار الموروثة والتقاليد العمياء لم تعد قادرة على مواكبة العصر الجديد الذى يتطور ويتغير كل يوم.