رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الساحر خالد الصاوي ولعبة الموت والحياة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حينما يتحول الموت والحياة إلى لعبتين في يد ساحر؛ هكذا كانت مسيرة الناقد خالد الصاوي الذي مات وحَيَا ألف مرة من قبل فرحا بتلك اللعبة التي تفرد في الاستمتاع بها.
ففي 19 أغسطس من العام 2008 حينما أخبر الطبيب خالد بأنه مصاب بالسرطان خرج من عيادته ليرى مبنى مجلس الشورى وهو يحترق ظن حينها أن السرطان قدأصاب جسد الوطن لا جسده هو؛ وأن ما يحدث داخل جسمه انعكاس طبيعي لما يحدث داخل مصر.
لم يأبه الصاوي كثيرا لجرعات الكيماوي التي بدأ في تلقيها ولم يلتفت لوجهه الذي شرع في الانتفاخ قليلا ورأسه التي بدت صلعاء واعتبر أن هذا علاج يهم جسمه والأطباء فقط؛ لكنه لا يمثل شيئا لنفسيته العليلة؛ فهم على الفور وراح يقنع نزلاء معهد الأورام -زملاءه في المرض- لتنظيم وقفة في الشارع أمام دار القضاء العالي يصرخون من خلالها في وجه الحكومة ويسألوها "لماذا أصبحنا مسرطنين؟"؛ وبالفعل نجح الصاوي في تنظيم وقفته تلك التي لاقت صدى إعلاميا كبيرا وبعدها بأشهر قليلة أخذ جسده في التعافي تدريجيا من ذلك الورم الخبيث.
لم يلبث الصاوي أن يفرح بنشوة انتصاره على الورم حتى أصاب كبده فيروس سي وبدأ في التعامل معه بنفس منهجه في التعامل مع الورم وفي أعقاب ذلك اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير وبدأ الصاوي الذي تجاوز الخمسين عاما حينها يخرج للناس وكأنه شاب في مقتبل العمر بكامل قوته شكل قاعدة شعبية في بلده بني سويف لحزب جديد خرج من رحم حزب التجمع وهو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي؛ نعم؛ كان الصاوي اشتراكيا حتى النخاع وأحد أبرز الذين حملوا على عاتقهم النضال ضد ما يسمى بحركات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان التي بدء في النضال الفعلي ضدها بإصدار كتابه "حول الإسلام والتأسلم ومشروعنا النهضوي" في العام 2008.
حياة الصاوي كانت عبارة عن سلسلة من النضالات تتمحور حول جانبين هما السياسة والثقافة وعلاقتي معه بدأت من الجانب الأخير في مطلع العام 2009 بنادي أدب بني سويف إذ وجدت شخصا يرحب بقصائدي البدائية ويتنبأ لي بمستقبل باهر في الأدب، كنت حينها غارقا في الشتات وأحتاج إلى قشة كي أتعلق بها فوجدت شخصا عاملني كإبن ثالث لنجليه محمد ومي كانت هذه دفعة قوية في حياتي كي أطور من أسلوبي في الكتابة وأزود معدلات القراءة وأكون أكثر انفتاحا على العالم وأتخلص من أي عادة رجعية قد تلقي بي إلى الجحيم.
أتذكر مرة قرأ شاعر شاب قصيدة علينا ونحن مجتمعون في نادي الأدب كنت حينها حققت قصائدي درجة من الرضى عند الزملاء في النادي فانتابني شئ من الغرور؛ فلما انتهى الشاعر الشاب من قصيدته طلب مني الصاوي أن أبدي رأيي في القصيدة فقلت له ببجاحة إنها هذيان شخص "محشش" تحول الصاوي حينها من أب حنون علي إلى حارس قلعة يمارس شراسته ضد بعض الغزاة ووبخني بشكل كبير؛ ذلك التوبيخ الذي قلب حياتي رأسا على عقب وجعلني أسعى لاستنباط رائحة الملائكة من الأشياء الشيطانية دائما، أحببت حينها ذلك الهذيان الذي بدى صادقا أكثر من أي شيء آخر.
نعم؛ كان الصاوي يفرض حمايته على كل شئ جميل في بني سويف كان يستشعر أن تلك الأشياء الجميلة آخذة في الاندثار وتحتاج إلى محمية ما كي تبقى؛ من هذه الأشياء؛ كانت الحرية في الإبداع واستمرار الكيان الثقافي في المحافظة مبدعا وخلاقا رافضا لأي قوة فاشستية تحاول طمسه؛ فجعل نادي أدب قصر ثقافة بني سويف هو أكثر مكان حر في مصر؛ كنا نناقش فيه كل شئ بحرية تامة ونشعر فيه بمعنى دقيق لماهية الإنسانية وماهية الثقافة.
أحببنا الاشتراكية بسبب الصاوي لا بسبب لينين أو ماو أو عبد الناصر زرع بأفعاله صورة ملائكية لها أظهرت لنا أنه نظام به أشخاص ترعى عقولنا ومواهبنا وتحمي حريتنا وتجعلنا متساوين؛ اقتدنا ونحن أدباء صغار من بني سويف إلى القاهرة لنقابل فيها شاعرا بحجم حلمي سالم وناقدا بحجم سيد الوكيل عرفنا على الشاعر عيد عبد الحليم الذي انتقى نصوصنا وحرص على تقديمها في مجلة أدب ونقد التي كان يدير تحريرها حينها؛ أزال من علينا صبغة أدباء الأقاليم وجعلنا كتابا مصريين تنشر نصوصنا في مجلة توزع في الداخل والخارج؛ ذهبنا إلى كل أنحاء الجمهورية نلقي قصائدنا كشعراء كبار ولسنا مجرد مبتدئين؛ خلقنا مجتمعا صغيرا خاصا بنا؛ كان مجتمع منفتحا وتنويريا وحرا داخل مجتمع كبير ينهشه طاعون السلفية الإسلامية من كل حدب وصوب.
الموت بالنسبة للصاوي كان مزحة؛ لم يخافه يوما ما أتذكر في كل مؤتمر أو ندوة يعقدها كان يتعب جدا يطلب مننا نقله إلى المستشفى فورا؛ كان يتعرض لغيبوبة نظن حينها أنه مات فنفاجئ أنه يفيق بعد فترة من نقلها إلى المستشفى ليعقد ندوة أخرى أو مؤتمر آخر أو جلسة مقهى نبارز فيها بعضنا بالأفكار وبتفسير معاني الوجود والواقع وفي آخر الجلسة يموت وفي الغد يحيا ويهاتفنا ويقول إنه انتهى من كتاب جديد عن شعراء العامية في بني سويف "كيف أعددته يا صاوي وأنت كنت في عداد الموتى منذ يوم" فيضحك بشكل هستيري ويدعونا إلى مؤتمر جديد في السويس معشوقته الثانية بعد بني سويف نذهب معه ونستمتع باليوم معه وفي آخر الليل تتهدج أنفاسه ويموت وينقل إلى مستشفى أخرى فيحيا مع أنفاس صبح جديد؛ هذه المرة أخبرنا أنه انتهى من كتاب جديد ضد جماعات الإسلام السياسي اختار له عنوان "وجوه ملائكية وأفعال شيطانية"؛ أهداني في صيف 2017 نسخة من هذا الكتاب وقمت بإعداد قراءة عنه نشرتها في جريدتي التي أعمل بها "البوابة نيوز"؛ قابلني بعدها في مقهى بالدقي ليشكرني ونتبادل الحديث عن أصدقاء نادي الأدب؛ كان هذا آخر لقاء بيننا قال لي فيه أن كبده قد تآكل بشكل كبير ولابد من زراعة كبد غيره فكل العلاجات قد فشلت معه؛ قلت له لا تقلق يا صاوي ستزرع غيره لكنك لن توقف أبدا لعبتك الخاصة بالحياة والموت؛ أنت تموت وتحيا يوميا يا رجل؛ تبدو ساحرا؛ هز رأسه وضحك ولم يدعني أحاسب على المشاريب.
اليوم 3 يناير 2019 قرر الناقد والشاعر والسياسي والمعلم خالد محمد الصاوى الرحيل بشكل يزعم البعض أنه نهائي لكن لعبته ستظل مستمرة وموجودة كفكرة قابلة للتوريث من الممكن أن يتوارثها محمد ومي أبنائه أو الأعضاء في نادي أدب بني سويف أو الأدباء في السويس والساسة في حزب التجمع أو أي شخص يرتدي جسد الوطن ويلبس الوطن جسده.