الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عالم بلا بلاغة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
فى بعض مراسلاته لمعارفه المتأثرين لسجنه فى الإسكندرية، كتب «ابن تيمية» رسالة غريبة يذكر فيها السجن بلهجة المبتهج، وبكلمات فى غاية التفاؤل بسبب المعاملة الحسنة والتفرغ الضرورى الذى حظى به لإتمام بعض مراجعات كتبه، فراغ لم يكن بقاؤه خارج السجن ليؤمنه له. والواقع أن كل مؤلفى سيرته الجادين كانوا يتساءلون عن طريقة عمله، هو الذى كان رجل ميدان منخرطا جدا فى الحياة العملية والحياة العسكرية لكونه محاربا فى مرحلة كثيرة الغزو، وهو رجل ربما ننتظر منه مؤلفات سطحية مباشرة كالفتاوى الشائعة، ولكننا لا ننتظر منه مؤلفات عميقة معقدة بليغة الأسلوب متعددة المذاهب التعبيرية والفلسفية ككتابه الفلسفى البديع «درء تعارض العقل والنقل».
المتحمس المرتمى روحا وبدنا فى الفلسفة مثلى، يتبادر إلى ذهنه السؤال التالى: ما هى اللغة التى كان «ابن تيمية» الرجل المركب يحلم بها؟ هل هى لغة المحارب التى فى الفتاوى؟ أم لغة النخبة المشبعة بالإحالة والثقافة والبلاغة التى فى «درء التعارض»؟
تنويعات
هل كانت مشكلة أفلاطون مع الشعراء بسبب اللغة شديدة الظلال التى سيتبناها أتباعه الجدد جيلا بعد جيل؟ هل كان أفلاطون يحب اللغة الواضحة؟ لو كانت تلك هى الحال لكان أفلاطون هو أرسطو وليس أفلاطون... والغالب أن ما لم يرده أفلاطون هو الشعراء المسرحيون الذين كانوا نجوما مشهورين آنذاك، وما كان يشغلهم هاجس الحق بقدر ما تشغلهم الطرق الكثيرة التى يحتالون بها لأجل التأثير على الجمهور؛ طرق كلها ضعيفة الصلة بالحق والحكمة... فالغالب أن أفلاطون لم يكن يبحث عن عالم بلا بلاغة.
فى القرن العشرين، سيعود أفلاطون إلى الواجهة بشكل غريب جدا. فطيلة قرون مديدة سوف يتطور المنظور العلمى حسب المنطق الأرسطى الذى يقدس الدقة اللغوية، وسيستحوذ على أرسطو عشاق العلم والتجريب والمعارف التطبيقية الملموسة؛ ألم يتحفهم أرسطو بمصطلحين ربما هما من أوسع ما يستعمل فى زمننا: «الفيزيقا والميتافيزيقا». وسيكون الشعراء كلهم مولعين بأفلاطون.. ولكن الشعراء سيلتقون مع العلماء فى ميدان الخيال العلمى، وسوف يكون أحد الأعمال الجميلة جدا فى هذا الميدان هى رواية المؤلف الأمريكى، كندى الأصول «ألفرد فانفوت» A.E. Van Vogt المعنون «عالم اللاأرسطيين» the world of null-A.. واللاأرسطيون هم الذين لا يؤمنون بالثنائيات الضدية التى بنى عليها أرسطو وعينا بالعالم.. فكما يقول أحد أبطال الرواية: «فيما عدا حالة «نعم» و«لا»، توجد على الأقل حالة «نعم ولا» معا، أو حالة «لا نعم ولا لا» فى الوقت نفسه»...عالم الرواية عالم أفلاطونى مبنى على منطق لا أرسطى ولا كوبرنيكى ولا نيوتونى.. عالم منفتح على الإمكانيات كلها.. عالم تسيره البلاغة التى تمقت نزوع اللغة صوب الحقيقة أو ادعاء الحقيقة وتولع عوضا عن ذلك بالمجازات التى هى حيوات أخرى للمعانى التى تحاول المعانى الحقيقية أن تمحوها بادعاءاتٍ تخفف منها قرننا هذا الغريب: الحقيقة- الاستواء- التشابه-الأنماط- المنظومات- الوضوح- القصدية- الاتحاد- الموضوعية- النقاوة.
ولعل أهم من تنبه إلى هذه الأكاذيب هو «فريديريك نيتشه» الذى كان يحذر من الحقيقة قائلا قولته الشهيرة: «لا توجد حقائق، كل شىء مسألة تأويل وكفى...».
مباشرة بعد وفاة نيتشه، وفى عام 1905، سيأتى دور إرساء مبادئ المدرسة الجمهورية فى فرنسا اللائكية أولا ثم فى كل مكان، لكى تبدأ إصلاحاتها بإلغاء مادة البلاغة من المناهج الثانوية، كثيرون عارضوا هذا التوجه فقال المدافعون عنه: إن البلاغة تحيل مباشرة على الكنيسة؛ إنها العلم الكنسى بامتياز.
من الأسئلة المحيرة التى تدور فى ذهن محب الفلسفة الذى هو أنا حول ابن تيمية دائما: كيف كان سيتلقى خبر اجتماع أناس كثيرين من خيرة القوم بهدف إلغاء تدريس البلاغة، هو الذى كان مولعا بـ«ابن عربى وعبدالقادر الجيلانى وابن عطاء الله السكندرى»، رغم شهرته بالتحفظ على مفهوم المجاز فى القرآن حتى صرنا لا نسمع ذكر ابن تيمية إلا ويرد عنوان رفض المجاز فى القرآن؛ وابن تيمية هو الرجل نفسه الذى علق بحماس على أشهر تفسير مجازى للقرآن «تفسير الكشاف» للزمخشرى قائلا: «بصرف النظر عما فيه من الاعتزال فهو تفسير لم يسبق مؤلفه إليه، لما أبان فيه من وجوه جمال النظم القرآنى وبلاغته. فقد برع فى كثير من العلم».
ابن تيمية هو نفسه الذى سيقول فى شرح تحفظه على القراءة المجازية لبعض أصول القرآن على أنها غير ثابتة، وبالتالى لا نستطيع أن نبنى عليها: «والمقصود هنا أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة فى اللغة، ثم استعملوها بعد الوضع وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعانى، فإن ادعى مدع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس..» أى أن بلاغة ابن تيمية هى بلاغة تداولية يتم استدراجها إلى تداول جمهور المستعملين؛ لأن البلاغة كائن حى يتطور باستمرار كما نعلم اليوم وليست أبنية تامة همها الاستعادة والتكرار والاستنتساخ، كما كان يستوعبها القدامى وكما كانت تعتقد الكنيسة.
ليس بعيدا هذا الكلام عن طبيعة تفكير الدلاليين والمناطقة التحليليين فى العصر الحديث فى اللغة، إذ راج نقلا عن منشئ «مفهوم علم الدلالة العام» ألفريد كورزبسكى قوله ليست الخريطة هى الأرض التى تمثلها: «A map is not the territory it represents»... (للتاريخ فإن ألفرد فانفوت بعد انتقاله إلى لوس أنجلوس قد حضر دروس كورزيبسكى فى علم الدلالة العام طيلة عام 1944).. وهذه هى التأملات التى سيوسعها فيتغنشتاين وكواين وراسل رودولف كارناب، فى محاولات لتجديد طرق التفكير القديمة من خلال تجديد وعينا باللغة.. محاولات ستكون أرسطية المنحى فى بحثها الرياضى عن «النمذجة» رغم تعرضها الدائم للقلق الأفلاطونى المركز على ما يتجاوز النماذج الرياضية على مثل غير محتواه فى اللغة بالضرورة، وهو الأمر الذى سيؤدى بشخص مثل «جورج مور» إلى التحذير من «سحر ما» كامن فى اللغة.
خلاصة القول
لقد مرت الإنسانية بمحطات كثيرة لم تستوقفها أهمية ما فيها من مشاريع فلسفية، وذلك لأسباب معقدة وطويلة الشرح كثيرة الظلال قلما نتفق حولها، وأعتقد من منبرى هذا أن وقفة الكندى مع «الأيس» الذى هو مفهوم الوجود الذى يتأسس على ضرورات النفى لا الإثبات بسبب ظرف بلاغى موروث، هى وقفة هامة ولكنها لم يتم استثمارها كما ينبغى. بل إن تعريف الكندى لله فلسفيا بأنه «هو مؤيس الأيسات عن ليس» هو تعريف شجاع كان علينا أن نبنى عليه شيئا فى تاريخنا العقلى العربى الإسلامى. وتكاد تغرينى فكرة بناء رواية على هذا الأساس كتلك التى بناها ألفرد فانفوت على افكار ألفرد كورزبسكى (وللتندر فقط فإن الصلة الاسمية «ألفرد» التى هى بين كورزبسكى وفانفوت يوجد بينى وبين الكندى ما يناظرها، إذ يعود أصل بنى الأحمر الأندلسيين الذين هم جدود عائلة الأحمر الجزائرية إلى «كندة» فى اليمين...!!).
ولكن هذه هى رواية أخرى!