الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم.. بين الموضوعية والذاتية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لكل علم مقومات ثلاثة: موضوعه ومنهجه والإنسان القائم عليه، وبينما يختلف الموضوع بداهةً من علم إلى آخر؛ فإن طبيعة المنهج ما زالت غير محددة. فهل يتعدد المنهج أم يتوحد؟ بعبارة أخرى هل تتوحَّد تلك القواعد التى يلتزم بها كل عالِم فى دروب علمه أيًا كان موضوعه أم تتعدد بحسب موضوع علمه؟ ومما زاد الأمر صعوبة أن المنهج قد استُـخْدِم للبحث فى أمرين مختلفين: للبحث فى العلم نفسه، والبحث عن الفلسفة الكامنة وراء العلم. ومن ثمَّ جرى فصل العلم عن المناخ الاجتماعى الذى يُوجَد فيه، وراج الحديث عن موضوعية العلم وحياده وعدم انحيازه، وكأنه يستهدف حقائق مطلقة مجردة ثابتة. 
أصحاب الاتجاه الوضعى- مثلًا - يرون أنه لا بد للحقيقة العلمية أن تجيء مستقلة- بقدر المستطاع- عن قائلها، فلا يمازجها شيء من ميوله وأهوائه ونزعاته الذاتية وقِيَمِه التى يُقَوّم بها الأشياء من حيث خيرها أو شرها، وجمالها أو قبحها؛ فليس لعالِم النفس- مثلًا- حين يصف السلوك الإنسانى أن يقول عنه إنه سلوك مستحب أو مستهجن، وليس لعالِم النبات حين يصف زهرة أن يقول عنها إنها جميلة أو قبيحة؛ كلا وليس للباحث العلمى أن يختار من الشواهد ما يخدم رغبة فى نفسه، أو ما يحقق له مثلًا أعلى ما يتمناه؛ بل العالِم الحق هو من ينظر إلى الواقع الخارجى المبحوث نظرة منزهة عن كل هذه الجوانب الذاتية. إن الوصول إلى الحقيقة العلمية هو غاية البحث العلمي، والحقيقة العلمية قوامها الموضوعية. والمقصود بالموضوعية التعامل مع موضوع البحث كما هو، أى بمعزل عن آرائنا وعواطفنا. وقد عبر «كلود برنار» Claude Bernard (1813 - 1878) عالِم الطب التجريبى- فى القرن التاسع عشر- عن هذه الصفة أصدق تعبير فى نص يقول فيه: «إن على العالِم أن يتخلى عن خياله عندما يدخل إلى معمله، تمامًا كما يخلع معطفه، وعليه أن يستعيده ثانيةً حينما يغادر معمله، تمامًا كما يرتدى معطفه». فكأن العلماء فى العصر الحديث فهموا أن البحث العلمى الدقيق يتحلى بالموضوعية ويتخلى عن الذاتية.
وينطوى مصطلح «الموضوعية» objectivity على الكثير من المعانى المتداخلة، وفيما يلى بعض منها: 
1- الاستقلال عن الوعى أو الإدراك. الوجود الموضوعى للأشجار والجبال يعنى أنها يمكن أن توجد حتى ولو لم يدركها أو يعيها أحد. لكن أيمكن للألم أن يوجد حتى ولو لم يشعر به أحد؟ إذا كان ذلك مستحيلًا كان الألم غير موضوعى بهذا المعنى.
2- استقلال الرأى لو اعتقدنا أن شخصًا ما يستحق الإعجاب وجدير به حتى لو كان لبعض الناس رأى سيئ عنه؛ فإننا نعتقد أن جدارته لا تعتمد على رأى الناس.
3- حياد الحكم، فالحكم يتحدد عن طريق عوامل مناسبة، وليس بعوامل غير مناسبة، مثل الميل أو التحيُّز الشخصي.
إن العلم يحصر نفسه فيما هو موضوعى عام، وليس له أدنى شأن بما هو ذاتى خاص. فالشيء يكون موضوعيًا إذا كان وجوده مستقلًا عن وجود الذوات الذهنية. ومن الطبيعى أن نعتقد أن الكواكب والنباتات موضوعية بهذا المعنى بسبب أن وجودها لا يعتمد على وجود الذوات الذهنية. فى حين أن الشيء يكون ذاتيًا إذا ما كان وجوده معتمدًا على وجود ذوات ذهنية. فالخبرات والأفكار هى ذاتية بهذا المعنى ما دامت تعتمد على ذوات ذهنية. 
وإذا كانت «الموضوعية» فى العلوم الطبيعية تعنى ضرورة أن يرصد العالِـم الوقائع فحسب، أى أن يهتم بالموضوع الموجود أمامه فقط فلا يُدْخِل ذاته: مشاعره أو معتقداته أو أحاسيسه أو أمانيه... إلخ فى هذا الموضوع. فإن الموضوع فى العلوم الإنسانية هو «الإنسان»، أعني: إنسانٌ يدرس إنسانًا، فهل يمكن ألا يتأثر الإنسان الباحث بالموضوع أى الإنسان المبحوث؟ أما إذا انتقلنا إلى مجال الأخلاق فسنجد أن مصطلح «موضوعي» objective مثل مصطلح «ذاتي» subjective أبعد ما يكون عن الوضوح. 
«القتل» مثلًا «شر»، لكن بالنسبة لمن؟ المواطن المصرى الذى يقتل جاره أو زميله فى العمل يُعَد مجرمًا فى نظر المجتمع، فى حين أن هذا المواطن المصرى ذاته إذا قتل العشرات من الإسرائيليين فى معركة حربية كحرب أكتوبر 73 مثلًا، يُعَد فى هذه الحالة بطلًا وليس مجرمًا، صحيح أن إسرائيل سوف تنظر إليه بوصفه مجرمًا، لكن هذا يؤكد وجهة نظرنا القائلة بنسبية الأحكام الأخلاقية، ولا ينفيها.
وينبغى أن نسلم أولًا بأن الحقيقة العلمية ليست انعكاسًا حرفيًا لصورة الواقع فى المرآة، بل هى تعبير عما يقرره العلماء عن هذا الواقع. وليس ثمَّة حقيقة علمية نهائية، بل تدنو النظريات المتعاقبة من الحقيقة شيئًا فشيئًا. وصدق القضية العلمية إنما هو التنبؤ بتحقق متواصل لها، ووجودها الدائم داخل طائفة المعرفة المقبولة. فلا يمكن وضع الحقيقة العلمية خارج العالَم المتغير، بل تظل دائمًا تحت الاختبار المتواصل، فالعلماء لا يكفون عن تغيير الطبيعة لخدمة أهدافهم العلمية، ولا يحدث ذلك التغيير فقط من خلال الاختراع والإنتاج، بل فى مواصلة اصطناعهم للمنهج العلمى داخل المعامل نفسها. ففى تجاربهم وتعقبهم لفروضهم يعالجون جوانب الطبيعة بحيث يغيرون من وضع الأشياء وعلاقاتها، ويمزجون بعضها ببعض مكونين ارتباطات جديدة، وهكذا يبدلون قطاعًا أو جانبًا من البيئة عندما يعزلونه ويخضعونه لأساليب التحكم والضبط والتجريب كطريقة من طرق كشف الحقيقة. 
وعلينا أن نقول إن الحقائق الموضوعية التى يعتمد عليها العلم لا تقتصر فقط على تلك الملاحظات التى يمكن أن يتفق عليها الملاحظون العاديون باستعمال حواسهم؛ لأن الاقتصار على ذلك قد يؤدى إلى إغفال أهمية المهارة والتدريب اللذين لا غناء عنهما فى مجال العلم. فإخصائى الأشعة الماهر يمكنه أن يرى المرض فى صورة أشعة (x)، ويستطيع العالِـم الذى يستخدم المجهر microscope أن يرى الخلايا وهى تنقسم، فى حين أن غالبية الملاحظين لا يستطيعون ذلك، إذ ينقصهم التدريب والمهارة. ولا يمكن الاعتماد على حقيقة قبول الخبراء لأحكام الملاحظة فى اعتبار هذه الأحكام صائبة، فالمعيار هنا هو مدى قدرة هذه الأحكام على الصمود أمام الاختبارات الموضوعية.