الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ثورة ضد إبريز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا أردت قراءة التاريخ فلا تبدأ بثانياً، وإذا أردت أن تكون منصفاً فى تقييم حقبة زمنية معينة، فلا تفعل ذلك بمعايير حقبتك المعاصرة، وإنما قيّمها بمعاييرها هى، وطبقاً للظروف التى كانت تحيط بها سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، وطبقاً للإمكانيات المتوفرة آنذاك، وقبل كًل ذلك طبقاً لمستوى إدراك العقل البشرى حينها، وتعاطيه مع ما يحدث من أحداث ومواقف أثرت على الفرد والمجتمع والعائلة الإنسانية.
مصر تكاد تكون الدولة الوحيدة فى التاريخ الإنسانى التى جربت كل أنظمة الحكم، من أول الملكية الفردية المطلقة وصولاً إلى النظام الجمهورى، وبينهما تعاقب على مصر النظام الإمبراطورى، ثم كولاية ضمن إمبراطورية، ثم كإمارة ضمن خلافة، وسلطنة مستقلة، وعاصمة لخلافة، وحكم مملوكى، وخديوية، وكما تعاقب على مصر نظم مختلفة فأيضاً كانت طرق ووسائل التعاقب مختلفة، فنرى تنصيب على العرش بوراثة إلهية، وإعتقاد بأن الفرعون هو وريث الإله ورمزه على الأرض، وأيضاً هناك تنصيب الغلبة كما كان يحدث فى بعض فترات الإحتلال، وهناك تولية لأمير من قِبل حاكم امبراطورى أو خليفة .. إلخ.
ومن أمثلة تعاقب الحكم فى مصر فى القرن السادس ق.م أثناء حكُم الأسرة (26) الصاوية، والتى من خلالها - أى الحالة - تم إنتقال الحكم من "واح أب رع" أبريز عام (570ق.م)، إلى "أحمس الثانى" أمسيس، والذى حكم نحو نصف قرن من الزمان، وإنتهى حكمه بوفاته عام (526ق.م)، ثم تولى "بسماتيك الثالث" للعرش مِن بعده لمدة 6 أشهر، ووقعت البلاد تحت الإحتلال الفارسى بسقوطه بقيادة "قمبيز" عام (525ق.م).
فى أواخر عهد "واح أب رع" حدثت قلاقل كثيرة من الإغريق فى أرض قبائل الليبو/ لوبيا "ليبيا"، ما أدى إلى إستنجاد هذه القبائل بجيش الفرعون، وعندها لاحظ الفرعون أن الفرصة سانحة لمساعدتهم ولكسب بعض الغنائم والثروات الموجودة هناك، خاصة إذا ما عرفنا أن تلك البلاد كانت مركزاً تجارياً فى ذلك الوقت، ويمر من خلالها العديد من التجار من أوروبا إلى المشرق والعكس، فقرر أن يساعدهم، ولكن كيف له أن يساعدهم وجيشه من المرتزقة الإغريق؟! .. وعليه قرر أن يخوض تلك الحرب بجنود مصريين.
وبالفعل كَوّن جيشاً على عجالة من الجنود المصريين، وزحف به إلى هناك، وأخذه الغرور بنفسه لأنه حقق إنتصارات عدة من قبل على خصوم آخرين فى الشرق، وأيضاً عدد الجنود والعتاد كان مدعاه للغرور، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، فقد هُزم هزيمة منكرة ورجع إلى "سايس/ ساو" عاصمة حكمه، ومعه عدد قليل جداً من جنود جيشه.
وعقب الهزيمة ظن الجنود أن "واح أب رع" إفتعل هذه الحرب خصيصاً لكى يتخلص من كل معارضيه العسكريين، لا سيما وأن قبيل هذه الحرب حدثت مشاحنات كثيرة على خلفيات إقتصادية وإعتباريات آخرى بين الجنود المرتزقة والمصريين، كمطالبة المصريين بمزيد من الحقوق، وعليه إشتعلت نيران التمرد والثورة.
وكرد فعل من "واح أب رع" على ما يحدث فأرسل أحد قادة الجيش ويدعى "أحمس الثانى" إلى المتمردين الثائرين، وذلك كمحاولة لإنهاء التمرد كما فعل فى السابق مع متمردى الجنوب (قصة إلفنتين/ نسيجود)، وبمجرد ما أن وصل "أحمس الثانى" إلى مكان التمرد، وبدأ فى مخاطبة الجنود من أعلى منصة حتى باغته أحد الجنود من الخلف واضعاً على رأسه (قبعة / تاج)، وطالبه بإعتلاء العرش وأيد ذلك باقى الجنود، ولقى هذا التصرف إستحسان من قِبل القائد المكلف بالتفاوض.
ولما علم "واح أب رع" بما حدث أرسل قائد أخر ويدعى "باتاربميس" إلى "أحمس الثانى" مطالباً بإحضاره حياً، ولما وصل "باتاربميس" إلى "أحمس الثانى" طالبه بالمثول والطاعة والذهاب معه إلى الفرعون، ولكنه أشار بقدمه بالنفى وسمح لـ"باتاربميس" بالعودة للفرعون، وعندما سمح الفرعون رسالة "أحمس الثانى" على لسان "باتاربميس" إستشاط غضباً وأمر بجدع أنف "باتاربميس" وصلم أذنيه، وبمجرد أن رأى المصريين هذه الحالة من عدم الإتزان والغضب قرروا أن ينضموا إلى الثورة.
وقد قال المؤرخ "ديودور الصقلى" عن هذا الشأن أن "واح أب رع" قرر أن يواجه "أحمس الثانى" عسكريا، وخرج بالفعل على رأس جيش من المرتزقة وكان عددهم 30 ألف مقاتل، وإنتصر المصريين فى هذه المواجهة، وتم أسر "واح أب رع"، وقطع المرتزقة الطرق وإمتهنوا السلب والنهب، وأودع الأسير سجيناً لمدة سنتين، ثم طالب الشعب بإعدامه كعقاب على ما فعله، وتم شنقه، ثم حظى بجنازة ملكية مهيبة ودُفن فى مقابر عائلته.. ولا تتعجبوا من ذلك لإن إعدام ملك كان شيئاً غير متعارف عليه ومنبوذاً لدى المصريين.
ويُكمل المؤرخ "ديودور الصقلى" سرده ويقول أن "أحمس الثانى" حكم البلاد بالقانون، وفى عهده إزدهر الإقتصاد وسادت حالة الإستقرار كافة أرجاء البلاد، ولكن فى نهاية الأمر أُضطر إلى الإستعانة بالجنود المرتزقة، الأمر الذى سيترتب عليه خيانة قائد الجيش لخليفته "بسماتيك الثالث" ووقوع مصر أسيرة للفرس.