الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الديمقراطية بين الممارسات والشعارات «5»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا ما عدنا إلى رؤوس المربع الذى وضعناه للوقوف على جوهر الديمقراطية (الحرية الواعية، المعتقدات والأعراف، المال والثروة، العنف والاستبداد) للكشف عن أثر كل منها فى حواراتنا وأحاديثنا ومثاقفاتنا وتباين آرائنا، فإننا سوف ندرك أن واقعنا السياسى والاجتماعى والثقافى والعقدى أبعد ما يكون عن الجانب الإيجابى الذى يجب أن يشغل المساحة الفاصلة بين هذه الحدود، أعنى مركز المربع والفراغات المحايثة لرؤوسه. 
ونبدأ بالسؤال: هل مبدأ الشورى والاختلاف وتباين الرؤى ثم الاجماع على انتخاب الأصوب منها سنة كونية أم أن عقولنا فطرت على أحادية الرأى والتبعية والاستبداد المبرر بالهيمنة والسيطرة؟ الحق أن الله خلق الإنسان ليكون ذلك الموجود الحر صاحب الإرادة المسئولة عن اختياراته إلى أقصى حد، فقد خيره بين عبادته والامتثال إلى دستوره أو جحده وإنكاره والكفر بنعمته، وذلك بعد تبصيره بمحاسن ومضار هذين الاختيارين، ومن الغريب إننا قد تناسينا ذلك النهج أو إن شئت قل تجاهلناه، وراح كل منا يلصق إخفاقاته وجهالاته وحمق اختياراته للقدر، وتشهد بذلك الأساطير التى شغلت حيزًا كبيرًا من مقدساتنا، فالحاكم الظالم قدر وابتلاء، والأمم المتخلفة سنة كونية، وفساد الحياة الزوجية نصيب، والشقاق والصراع من فعل الشيطان. وإذا ما انتقلنا من التعميمات ودائرة التنظير إلى استقراء مجهر التطبيق على منطق الحوار، فهل ما يجرى بيننا على كل الأصعدة وفى كل الميادين يتسم بجوهر الديمقراطية الذى يعترف بالمخالفة واحترام الرأى الآخر.. وهل نمارس التفكير الناقد فى محاججاتنا؟ والإجابة بالقطع لا. 
فإذا ما استعرضنا خطاباتنا المرسلة سوف نجدها بين دربين: أولهما يتنازل طواعية عن إرادة الأنا فى تصور الآراء والتخطيط واتخاذ القرارات وتنفيذها، فنقول بناء على توجيهات أو تكليفات وتوصيات دون أى ذكر لجهود أو لدور القائم الحقيقى بالتنفيذ، وجميعنا يسمع بانعقاد المؤتمرات وإقامة الندوات التى تنتهى عادة بتوصيات، غير أن معظمها يخلو تمامًا من ثمرات المثاقفة والتفكير الناقد، فمعظمها صيغ إنشائية وعبارات فضفاضة أقرب إلى لغة الخطابات المرسلة منها إلى المشروعات المعدة للتطبيق؛ أما الحوارات الإعلامية فحدث ولا حرج بداية من جهل الطرفين بآداب الاختلاف وأخلاقيات طرح الرؤى وتعصب المتحاورين لآراء انتحلوها أو مذاهب آمنوا بها أو أيدلوجيات انضووا تحتها دون استيعاب لمقاصدها أو مآلاتها أو أقوال مسيسة كُلفوا بترديدها ومرورًا بالأكاذيب المدسوسة والمغالطات المقصودة والتدليس المتعمد وانتهاء بخصومة وعداء فى متنفس من العنف، وكل ذلك بالطبع يبعد تمامًا عن الديمقراطية التى نطالب بتطبيقها، بل إنه يعكس منطق الاستبداد والرجعية والسلبية، وكلها من الآفات التى تلعب دورًا كبيرًا فى تزييف الرأى العام وذلك لابتعادها عن الروح العلمية فى التناول والرؤى الإبداعية الحرة، التى لا ينتجها أنصاف الدارسين أو من استملحوا التقليد ودأبوا على الانصياع لمن يجلسون على رؤوس الموائد من أهل السلطة أو الصفوة وذلك بغض النظر عن دربتهم أو درايتهم. ولعل أفلاطون (عاش ٤٢٧ ق.م - ٣٤٧ ق.م) كان مصيبًا عندما نادى بضرورة استبعاد مثل أولئك الذين يقودهم الهوى وتعوذهم الحنكة والدراية عن المسرح السياسى، وذلك لأن كثرتهم الجاهلة أو اندفاعهم وراء شهواتهم لا يعود بالنفع على المجتمع من تطبيق مثل هذه الديمقراطية الضالة، ومن ثم يرى أفلاطون أن استبداد النخبة العاقلة أنفع لتسييس المجتمع من الكثرة المضللة التى يقودها التعصب لشعارات أو أوهام فتفرضها على المجتمع فيؤدى ذلك إلى دماره. والحق أن أفلاطون كان محقًا فى ثلاثة من طعونه على الديمقراطية: أولها أن السياسة من العلوم العملية التى لا تكتسب إلا بالممارسة ومن ثم يجب على من يريد اللعب على المسرح السياسى أن يكون ممارسا لها منذ صغره، وثانيها أن القول بأن النظام الديمقراطى يتيح لكل الأفراد التعبير عن آرائهم الحرة ورغباتهم الحقيقية زعم يحتاج مراجعة لأن معظم العوام تنقصهم القدرة على المفاضلة بين الرؤى وتمحيص الآراء ثم الانتصار لواحد منها بمحض اختياره، وثالثها أن الجماهير التى تمارس الديمقراطية بغير استحقاق يقعون فريسة لسماسرة العمل السياسى من المأجورين أو لمزيفى الوعى الذين يوجهون الرأى العام تبعًا لقناعتهم أو أيدولوجياتهم. 
وللحديث بقية