الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

داعش بعيون مغاربية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما نزلت نازلة بالعرب والمسلمين فى أزمنتنا المعاصرة أشد من نازلة «داعش» هذا الشر المستطير والبلاء المبين. 
ولأنى من الموقنين بمقولة هيجل الشهيرة: «بومة منيرفا لا تحلق سوى ساعة الغسق»...والتى صاغها عالم الاجتماع البولندى الراحل زيجمونت باومان، بعبارة أوضح قائلا: «القاعدة العامة أن الأشياء تُلاحظ فقط -وبأثر رجعي- عندما تختفي»... لذا أعتقد أن كل المحاولات الحالية لتفسير «داعش» مبكرة وغير ناضجة، فنحن نحتاج دائما لمسافة ما تفصلنا عن الحدث- الفعل لقراءته وموضعته فى سياقه الصحيح.. فـ«هنا والآن» حجاب كثيف وحائل صفيق، لكن ذلك لا يمنعنا من «المحاولة» أو «شرف المحاولة» لفهم هذا «النكد المقيم»، وإذا كنا قد مللنا من الحديث السياسى والإعلامى والدينى المكرر عن داعش فالأفضل أن نولى عقولنا شطر الفلسفة طمعا فى إجابة جديدة. لذا قررت أن أتوجه بسؤال: إذا كان داعش وإخوته نتيجة حتمية للتراث الفقهى فلماذا لم تظهر سوى الآن؟ وإذا كان التراث بريئا من الحالة الداعشية فكيف نفسر النصوص التراثية التى يستند إليها هذا التنظيم؟... لنخبة من المفكرين والفلاسفة المغاربة –تونس والمغرب والجزائر- لاعتقادى أن بلدان المغرب العربى الأكثر رسوخا فى ميادين الفلسفة والنقد المعاصرين. 
وفيما يلى «الجواب المغاربى» عن داعش وإخوته:
رأى المفكر المغربى محمد سبيلا، أن كل الديانات تتضمن مدونتين إحداهما عنيفة والأخرى سمحة وكريمة. والشعوب تستعمل تارة التراث العنيف وتارة التراث أو المنظور المسالم حسب الشروط التاريخية والأحوال المجتمعية وأحوال وثقافة النخب إلى غير ذلك من العوامل. وتاريخنا الثقافى ملىء بمخزون العنف، وهو ينتظر اللحظة التاريخية المناسبة.
ويمضى فيقول: فى العصر الحديث شعر العرب والمسلمون بعد إفاقتهم على قوة وعنف العالم الحديث (يقول أحد المؤرخين المغاربة ما معناه: واستفاق المغاربة على الكور والكرناد أى القنابل والمدافع) بصدمة مزدوجة أو مثلثة: قوة وعنف الآخر –تقدمه- تأخر الذات ومشاعر الخيبة والجرح النرجسي:
وهنا اختلفت ردود الفعل وبدأ يتبلور نوع من الوعى الأيديولوجى: إذا كنا متأخرين فليس ذلك راجعا لنا أو لثقافتنا بل لخبث ومكر الآخر، وإذا كان الآخر متقدما علينا تقنيا وماليا وتجاريا فنحن متفوقون عليه روحيا وثقافيا، والبعض الآخر ذهب إلى القول بأن له الدنيا ولنا الآخرة إلى غير ذلك من أشكال التبرير والتسويغ و«التفسير... كما اختلفت النخبة فى تشخيص اللحظة التاريخية وفى تحديد معالم النهوض: الوعى الديني -الوعى العلمى أو التقنى- الوعى السياسى الليبرالى أو الوعى بالحرية».
وعن علاقة داعش بالدولة العثمانية يقول سبيلا: داعش ظهر على خط الوعى الدينى فى تلاقحه مع أوضاع سياسية معينة. إنه امتداد للوعى الدينى التقليدى فى التقائه بخطط سياسية معينة وبخاصة منذ سقوط «الخلافة» العثمانية وركوب اتجاهات مذهبية دينية وإخوانية على هذا الخط.
ويوجز سبيلا قائلا: لقد سار الوعى العربى الرسمى الحديث فى مسار متعاكس مع الوعى الحداثي. ففى الوقت الذى اتجهت فيه الحداثة فى الغرب نحو الفصل بين السياسة والدين (حماية للدين ووقاية للسياسة)، اتجه الوعى التقليدى الإسلامى العربى إلى ربط الدين بالسياسة إلى حد اعتبار السياسة (الإمامة) ركنا من أركان الدين، وإلى التمسك بحلم الخلافة الإمبراطورى كيوتوبيا خلاصية. وهكذا فقد ظل الوعى الفكرى العربى (الذى تنتجه النخب الثقافية والسياسية ويتم إشاعته فى المجتمع)، وعيا منشدا إلى الماضى وإلى نموذجية الماضي، وعيا دفاعيا تتحكم فيه بالدرجة الأولى وظيفة واحدة للثقافة (الدفاع بدل الفحص النقدى واستشراف آفاق التطور التاريخى).
أما الفيلسوف التونسى فتحى التريكى، فيلقى باللائمة على التحديث الغربى قائلا: ليس داعش وإخوته نتيجة حتمية للتراث الفقهى؛ لأن هذا التراث ثرى ومتنوع وشائك أدرسه وأقرأه حسب معطيات عصرى، كما بينت ذلك. فليس بالغريب أن يقوم داعش باعتماد عناصر من التراث قام بفرزها واقتلاعها من محيطها ومن أسبابها، وجعل منها عناصر أزلية أبدية يبرر بها وحشية لم تعرفها الحضارة الإسلامية بتلك القوة وبذلك الجبروت. داعش هو نتيجة تحديث المجتمعات العربية الإسلامية، وهو ردّة فعل تكاد تكون عادية ضد هذا التحديث. ولو عدنا لتاريخ تحديث أوروبا لوجدنا أنها مرت تقريبا بنفس الوضعية، إذ قامت حركة ارتكاسية إرهابية أتت على الأخضر واليابس تزعمها «سوفانرول»، فتصدت لها كل القوى التحديثية عصر ذاك بما فى ذلك الكنيسة وتم التغلب عليها. 
وتمنى التريكى: أن تجد قوى التحديث فى بلداننا السند من طرف أهل الدين وعلمائه الفاعلين، نحن الآن بحاجة إلى محمد عبده جديد أو الطاهر حداد جديد لتحريك السواكن والنضال من أجل تطوير الإسلام السمح الذى كان وما زال ديننا المتسامح الذى علمنا السلام والتعايش فى كنف الكرامة.
لم يبتعد المفكر الجزائرى محمد شوقى الزين عن سابقيه قائلا في نقاط: 
- ينبغى الاعتراف بأن اللقاء بالآخر (الغرب فى هذه الحالة) ولّد نوعًا من الصدام. نرى الآخر بأنه عدوانى، استعمارى، توسّعى، فنفرّ إلى الذات بالتحصُّن بالهوية ورفض هذا الآخر.
- ربما يلاحظ الشخص أن العلاقة بين المسلمين والغربيين اليوم عكسية وليست طردية: كلما اكتسب الغرب حقوقًا وحريات جديدة، كلما فعل العالم الإسلامى العكس بأن ينغمس إلى مزيد من القمع والكبح والانغلاق، فهو يرى فى الغرب مصدر العدوان، فيتحصَّن بالدين ويحارب كل فكرة يرى فيها جانبًا من السقوط الأخلاقى (حرية المرأة، حرية الأقليات مثل المثليين)، عندما يرى فيها الغرب جانبًا من الارتقاء بالوعى والحقوق إلى مصاف العالمية، لا شك أننا أمام حوار الطرشان، لأن الغرب والعالم الإسلامى فى بُعدين مختلفين راديكاليًا، ولم يُفلحا فى التواجُد على مستوى ما أسميه «التشاكل الحضارى».
- يرفض العالم الإسلامى الغرب من وراء دعوى الانحلال الأخلاقى ويرفض الغرب العالم الإسلامى من وراء دعوى الغلوّ والتطرف الدينى والإرهاب.
قبل داعش، كانت هنالك فى التاريخ الإسلامى حركات عنيفة مثل: القرامطة والحشاشين، وكانت تستلهم من الدين لتبرّر أفعالها.
- إذا قلنا بأن التراث برىء من الحالة الداعشية، فإننا نتفق على أن التراث ليس شيئًا يمكن تطبيقه بحرفيته وحذافيره. إذا كان داعش يقول بأنه لا يفعل سوى تطبيق الأحكام كما هو منصوص عليها فى القرآن، فإن هذه الأحكام لها بيئة خاصة ورؤية معينة للعالم لا يمكن إسقاطها على سياقات أخرى ورؤى أخرى من العالم؛ فقط لأن العقل البشرى يتطوّر، وعندما يتطوّر فهو يقضى بابتكار أساليب جديدة من الحكم تنتمى إلى ما سماه الألمان «روح الزمن» لا يمكن أن نطبّق التعاليم حرفيًا مخافة تشويهها زمنيًا... يمكن أقلمتها وتأويلها تبعًا للارتقاء الكامن فى روح الزمن، لكن تطبيقها حرفيًا هو أساسًا قتلها.. (Zeitgeist).
- هكذا قُتل أيضًا الدين المسيحى على يد المنتسبين إليه؛ لأن غباء التطبيق الحرفى للأحكام انجرّ عنه عصيان الوعى الداخل تحت روح زمن جديد، وهذا ما لم نفقهه بعدُ.