الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإرهاب وتلوث الهوية المصرية "12"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تكن أفكار الاتجاهين المتعصبين للموروث العقدى أو للفكر العلمانى الأوروبى من أهم ملوثات الهوية المصرية فحسب، بل كانت هناك وما زالت مؤثرات أخرى لا تقل أثرًا أو خطرًا عن سابقتها: - فإذا كانت أفكار الجماعات الإسلامية المتشددة - التى قادت شبيبتنا إلى العنف انتصارًا للفهم الجانح والتأويلات الجاهلة بحقيقة الشرع ومقاصده - والأفكار العلمانية التى روجت لها مئات الكتابات والأحاديث - وذلك لتزييف الرأى العام التابع لا سيما للشباب المنبهر بتقدم الغرب واليائس من نهوض مصر بخاصة والشرق بعامة والرافض لسلوك المتأسلمين وخطابهم الدعوى المتهافت عقليًا وعلميًا والمنفصل تمامًا عن نبض الحياة فعملت على نشر الفوضى بينهم وغرست فيهم جراثيم الشك والإلحاد - قد نجحت فى انقسام العقل الجمعى وشتتت ولاءه – بعد انسحاق الطبقة الوسطى المستنيرة - إلى فريقين متناحرين!
فإن فساد المؤسسات الحكومية - بما فى ذلك التعليم والثقافة والإعلام - قد لعبت دورًا أكثر خطورة وأقوى أثرًا فى بنية الهوية المصرية. فالفقر والعوذ وتفشى الأوبئة وغيبة الرعاية الصحية والاجتماعية ولاسيما فى الطبقات الدنيا، واتساع الهوة بين الطبقات، قد دفعت شبيبة المعوزين إلى الجنوح بكل أشكاله بداية من انحطاط الأخلاق، ومرورًا بممارسة العنف فى الجريمة المنظمة وتعاطى المخدرات وانتهاءً بجحد مشخصات الهوية وعقيدة الولاء للأرض والانتماء للعائلة. أجل إن انحطاط مستوى التعليم فى كل مراحله قد حرم خريجى المدارس والجامعات من إيجاد فرصة عمل فى الداخل أو الخارج (تلقين، معارف بلا مقاصد، مدارس فنية بلا خبرات وكليات ومعاهد بلا تخطيط، وزراء بلا رؤية، حكومات بلا صلاحيات واستراتيجيات)، وذلك على العكس تمامًا من سياسة القادة المستنيرين فى فجر النهضة المصرية الذين كانوا يخططون وينفذون ويعدلون ويطورون فى عمل متواصل اختفت فيه الأنانية والتبعية والانتهازية وعلت فيه الرؤى العلمية الإصلاحية والمصالح العامة المدروسة. ناهيك عن غيبة المقررات الدراسية التى كانت تعمل على تربية النشء خلقيًا ووجدانيًا وتربويًا وسياسيًا (التربية الدينية - الأخلاق العملية - التربية الوطنية والتربية القومية - الأنشطة الفنية) فقد أضحى جميعها من المدركات المهمشة التى لا تخلو من الإهمال الخلل والعوج. وقد حاق هذا التردى والانحطاط بمنابرنا الثقافية (صحف إخبارية، أقلام مرتعشة، أبواق مزيفة للوعى وتابعة للجالسين على الكراسى الحكومية أو رجال المال الذين يملكون الثروة والعطايا) وقد أدى ذلك إلى تعملق الأقزام وانزواء المبدعين وتزييف الوعى وخضوع الكتاب والمفكرين - من بقايا الطبقة الوسطى - إلى من يدفع الثمن، فلم تعد برامجنا الإذاعية والتليفزيونية وأفلامنا ومسرحياتنا قنوات فياضة ناعمة للتربية والتثقيف والتنوير، الأمر الذى دفع الشباب للعزوف عنها إلى غيرها من الثقافات المغايرة لهويتنا ومشخصاتنا. وباتت آدابنا الشعبية (الأغنية، الموال، الملحمة، الحدوتة، الحكاية، النكتة) لا تمثلنا ولا تعكس أوجاعنا وطموحاتنا بل جاءت مصطبغة بصبغة الثقافة العفنة السائدة فبدت فى أثواب قذرة كلمات مريضة وألحان لا صنعة ولا فن فيها وأصوات أقرب إلى الرقاعة والبهيمية منها إلى العذوبة والحلاوة والجمال، وحكايات وقصص مهجنة سفاحًا لا جدة ولا طرافة فيها من فرط التقليد ونكات إباحية لا نقد فيها يقوم المعوج ولا سخرية تنذر بالخطر المتحدق بنا. أما القنوات الإعلامية فحدث ولا حرج لا سيما بعد الخصخصة والانفتاح على العالم دون تحفظ أو تطعيم الرأى العام بأمصال تقيه خبائث أجوائه. ومن المؤسف أن الحكومات المتتالية بداية من فترة السبعينات إلى الآن - لا سيما بعد الانتقال المفاجئ من الاشتراكية الناصرية غير المدروسة إلى نفايات الليبرالية ووحشية الرأسمالية - لم تحاول وضع خطة لمعالجة ذلك التلوث الذى أوشك أن يصبح وباء، بل على العكس من ذلك تمامًا إذ ساعدت السياسات العشوائية للحكومات المتتالية على انتقال الواقع السيئ إلى الأسوأ، فأضحى الشارع المصرى شاغلًا بالسفالة والجهالة والانحطاط والصراع والاغتراب واليأس والتطاول والتبجح والتطرف بكل أشكاله والانحلال بكل مظاهره. وإليك بعض الأمثلة: 
- قانون الإسكان الذى تحطمت على نصوصه العديد من القيم والمشخصات وعلى رأسها الولاء للمكان والألفة بين العشيرة فى الحى والتعاون والتآزر والحمية والشهامة والآداب العامة بين الجيران، فبات شعار (الولاء الأوحد للمال) ومن أراد العيش يجب أن يعمل لامتلاء جيوبه دون تحفظ على الوسيلة (اللذة القريبة والمضمونة هى الحقيقة التى يمكن التأكد من وجودها، أما الفضائل فمشكوك فى صحتها وقائليها والثواب عليها فى غد مجهول). 
- وإليك أيضًا: غياب المدارس العسكرية وانسحابها من مشهد التعليم وإهمال نظام التجنيد وتسريح الشباب، وإهمال تحديث المعايير للالتحاق بكليات الحقوق، والسياسة والاقتصاد، والإعلام، والتربية، والآداب، وقد هُدمت بذلك البوتقة، التى كانت تلفظ رجالات النهضة والمسئول الأول عن صناعة الطبقة الوسطى والضامن الأقوى لعقيدة الولاء والانتماء والتضحية والإخلاص من أجل مصر. 
- ناهيك عن غيبة الرقابة على المصنفات الفنية التى كان يقودها الأحرار من المستنيرين والأيقاظ الواعون بمصلحة البلاد، وذلك تحت شعار أجوف هو حرية الإبداع، الأمر الذى كان وراء ما يمكن أن نطلق عليه مخلفات الفكر وجيف الابتداع ومرايا القبح فى جل أعمالنا التى لا يمكن وصفها بأنها فنية لأنها شاغرة تمامًا من مواطن الأصالة والابداع.
أجل تلك كانت أهم ملوثات الهوية المصرية ومظاهرها وعللها المباشرة وغير المباشرة، تلك التى لا يمكن فصلها عن البيئة والأوضاع الاجتماعية السياسية والعلمية والاقتصادية، فمن الخطأ الاعتقاد بأن التطرف والجنوح والجموح عن مشخصات الهوية هو العلة الحقيقية لما نحن فيه من تلوث أوشك أن يصيب هويتنا فى مقتل بل إن ذلك كله هو مظهر ورد فعل مباشر لغيبة الطبقة الوسطى التى أشرنا إليها وبيّنا رسالتها ومسئوليتها ودورها فى تربية الرأى العام وتوجيه العقل الجمعى والحفاظ على مشخصات الهوية الثقافية والاجتماعية المصرية. وأخيرًا لا أقول إن هناك للحديث بقية، بل أنتظر - من الذين لم يقتلهم اليأس ولم يثبطهم الفساد المتفشي، ولم يقعدهم عدم إصغاء الجمهور إلى تحذيرهم وندائهم ودعوتهم لإعادة البناء - أجل أنتظر من يلبى دعوتى منهم لفعل ما يقدر عليه لاسترداد وتعافى هويتنا المريضة وإنقاذها مما حاق بها من ملوثات تستشرى لقتلها ولكن هيهات! فإذا لم يفعل من نطلب منهم العون فسوف يأتى يوم تستيقظ فيه العقول وتتطهر فيه الأنفس وترتقى فيه الأذواق وتخلص فيه النوايا وتنبض فيه القلوب بحب مصر التى لن تموت أبدًا.