الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

زائرة آخر الليل

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كم هى ليلة شديدة البرودة، تلك التي جمعتني بأصدقائي في أحد أركان مقهى قديم بمنطقة تاريخية بوسط القاهرة، كنا قد أمضينا بعض الوقت في مشاهدة عرض مسرحي شيق وعميق يتحدث عن صراع النفس بين التخلف والحضارة، بين الظلم والقهر والحرية، بين الفكر والظلام، وجلسنا نتحدث سويًا بعد بحث طويل عن مقهى شعبي بجوار المسرح، ونناقش هذا العرض ونبحث سويًا عن فكرة أسعى إليها منذ شهور وتهرب مني كعادتها بين شوارع القاهرة، فأعود لأبحث عنها مرة أخرى وأطاردها بين طرقات القاهرة القديمة ووجوه مختلطة من كل الشعوب تجوب شوارعها، وتجلس على كراسي مقاهى ومطاعم أحيائها العريقة القديمة أيضًا.
لم أنتظر كثيرا ونحن نتحاور حتى دخلت علينا من بعيد تحمل أكياسا من بقايا الطعام كبيرة، تمشي في ثيابها البالية محنية للأمام تقاوم الدهر، شامخة في نفسها وهي تضحك في وجوه الجميع، تسلم على البقال وصبي القهوة، تنادي على هذا وترد على ذاك، وما إن دخلت الشارع حتى انطلقت طاقة غريبة عجيبة فى كل أركان المكان، وما كدت أنتبه منجذبا إلى كل هذا الزخم حتى فاجأتنى بما هو مبهر.
في أقل من لحظات من دخولها إلى أول الشارع سارعت إليها منطلقة أكثر من عشرين قطة، تقفز فرحا ولعبا حولها، تتمسح في أقدامها الممتلئة من شدة المرض، ثقيلة الخطوة بفعل الزمن، وما إن رأتها حتى وقفت ضاحكة وسألتها بصوت عال، أين القطة الصغيرة؟ بلا أي تردد ولا احتياج لوقت لتنظر أو تعد أو تمر بعينيها عرفت أن هناك قطة ناقصة بينها، لم تكن تسأل عن قطتها المنطلقة بالشارع، بل كانت نبرات صوتها تسأل عن طفلتها الصغيرة، التى لم تتردد لحظة في وضع كل ما تحمله من أكياس للطعام وتبدأ في البحث عنها بصوت عال، وتسأل عنها كل القطط حولها، لينطلق من بعيد صوت قطة صغيرة تنادي عليها خائفة وتخرج لها من تحت أكوام من الكرتون والخشب في ركن بعيد من الشارع.
كان المشهد كله بالنسبة لي جزءا من فيلم قد تكون سمعت عنه أو رأيته من قبل أو حتى حدثك عنه شخص ما، ولكن كان إسراع القطة الصغيرة إلى حضنها لافتا للنظر، ولم أره من قبل في أي مشهد، بعيدًا عن كل ما تقدمه لنا الميديا من مشاهد مدسوسة منمقة مخادعة أو كاذبة، تناقض ما نعيشه من قسوة في القلوب وظلام في العقول، امتلأت بالفعل بجشع أو رغبة في المال أو الجاه أو صراع حول كرسي ومنصب أو حتى تزييف حقائق، أملا في بقايا الكبار وفضلات الحيتان، فمن زيف السياسة إلى تجارة بالدين إلى شعارات رنانة كلها تملأ آذان الجميع وتزكم الأنوف، من تركيا إلى إيران إلى قطر والإخوان والجماعات الإرهابية وأخبار عن تفجيرات هنا وقتل هناك وتعذيب شخص وقتل آخر وتزييف للحقائق أو حتى أحلام يقظة يعيشها البعض.. امتلأت العقول والقلوب بالحقد والكراهية والخيانة فلم يعد بها مكان للرحمة والإنسانية لدرجة أن هذا المشهد بالنسبة لي كان جزءا من فيلم للخيال العلمي أو مشهد من برنامج «الصدمة» قد أفكر كثيرا في تمريره للمشاهد قبل تصويره خوفا ألا يصدقني.. وكم من صدمات هزت أركاني كثيرا وأنا أكتب أو أصور أو حتى بعد مشاهدة ما تم تصويره من قبل.
كان التفاف القطط حول السيدة مرعبا حقا، مثيرًا لكل نقطة إنسانية أو رحمة قد تجول في خيالك أو تداعب خاطرك يوما، ولكن كان الأكثر مفاجأة لي رد السيدة العجوز على البقال الطيب عندما سألها عن سبب تأخرها اليوم؟ لترد بلا تردد أن قطط المتروبول لم تتركها تمشي، وكلما حاولت الرحيل طلبت منها أن تنتظر بعض الوقت! نعم يا سيدي هكذا قالت بالحرف «إن قطط متروبول طلبت منها أن تنتظر معها قليلا».. كانت نظراتي لأصدقائي بها الكثير من علامات الاستفهام، رحلت جميعها عندما وجدت نفسي أردد بداخلي «يا أمي جئناك بالأمر ولم نأت مخيرين، فأنت إجابة السؤال والفكرة التي أبحث عنها وما مشينا إذ مشينا إلا لنقابلك.. وحقا من أطعم يطعم ولو بعد حين يا أماه».
نعم كان خروجى من بيتى منذ الصباح وكل ما فعلته ليسير برنامج يومى كان مجرد خطوات ترتبط ببعضها وتتصل لتكمل المسيرة حتى أصل إلى هنا وأقابلها، فلا شيء بهذا الكون عبثيا أو هلاميا أو عشوائيا وإنما لكل خطوة رسالتها وهدفها الذي قد تراه أو تتيقن منه في وقتها أو بعد حين، ولكن كانت رسالتك لي وحكمة وجودى معك كاسحة لكل شوائب نظري وضباب عقلي وحواجز مشاعري وقلبي.. إنها الرحمة المطلقة في زمن أصبحت فيه الرحمة عملة نادرة ثمينة، الرحمة بلا هدف ولا كاميرات ولا شو إعلامي أو أهداف سياسية، مجرد رحمة مطلقة لوجه الله، هذا ما نفتقده حقا فى حياتنا لتعود لنا الحياة من جديد وتدق قلوب هي أشد من الحجر أو أقسى من الحديد، حتى نقابل ربا سوف يسألنا عن الرحمة ماذا قدمنا منها؟ وكيف عرفناها؟ وأين كانت من قلوبنا؟ حقا هي جملة تتردد في عقلي بلا أدنى شك فى محتواها «من أطعم يطعم ولو بعد حين.. ومن رحم يرحم ولو في آخر الزمان».