الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الكاتب الهولندي آرنون جرونبرج لـ"البوابة": قرأت محفوظ في العشرين من عمري ولم أفهمه.. لكني أدركت قيمته العظيمة

الهولندي أرنون جرونبرج
الهولندي أرنون جرونبرج الترحال
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اعتاد الهولندي أرنون جرونبرج الترحال. صار تجهيز حقيبته من أجل الانطلاق إلى عالم بعيد عن الحضارة الأوروبية أمراً مألوفاً. وأصبح وجهه معروفاً لدى رجال الجوازات والعاملين في مقاهي مطارات أوروبا والولايات المتحدة، الذين اعتاد تناول إفطاره الخفيف ومشروباً يُعطيه الدفء وسطهم قبل انطلاقه في رحلة أخرى.
تنوعت رحلات جرونبرج إلى الشرق الذي صار يعرفه، فهو يسافر كثيراً، أحيانا لأسباب شخصية، وغالباً لأسباب صحفية "أنا بالأساس روائي، ولكن في عام 2006 بدأت مشروعاً بالتعاون مع بعض الصحف الهولندية لكتابة عدة مقالات عن أفغانستان؛ فسافرت إلى هناك، وكنت أكتب مشاهداتي وأشياء أخرى، وبعد نجاح هذا المشروع سافرت مرة أخرى، ولكن إلى العراق في عام 2008، لكتابة بعض المقالات، ثم عدت وسافرت من اسطنبول إلى بغداد في عام 2010".
هذه المرة يأتي الكاتب الهولندي إلى القاهرة للمشاركة في أسبوع الكوميكس الذي أقيم للسنة الرابعة على التوالي، والذي أطلق في ختامه الطبعة العربية لكتابه المصور "من اسطنبول إلى بغداد"، وكان نتاج رحلته الأخيرة إلى العاصمة العراقية التي هدفت في البداية إلى كتابة مقالات في الصحافة الهولندية عن أوضاع المنطقة، والبلد الذي احتفل مؤخراً بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وتحرير أراضيه من مقاتليه بالكامل "هذه الرحلات التي أسافرها كثيراً هي جزء من حياتي ومن طريقتي لاكتساب الخبرات والمعارف الشخصية، وهي أيضاً جزء من عملي، أنا أكتب عن هذه الرحلات وأحاول أن أفهم أكثر المجتمعات التي أسافر إليها، والبلاد التي أزورها، قد أستفيد من بعض الشخصيات التي أقابلها في رواياتي التي أكتبها، وفي جميع الأحوال أكتب كثيراً عن ما أفهمه وأراه في الصحف".
يتذكر جرونبرج أولى خيوط علاقته بالفن "كنت أرغب في أن أصبح ممثلاً، ولما فشلت في التمثيل اتجهت للكتابة المسرحية، وكانت أول أعمالي، وبعدها بفترة أسست دار نشر صغيرة حينما كنت في التاسعة عشر من عمري، ثم اتجهت لكتابة الروايات، ولم ينتهي شغفي بالكتابة المسرحية، فبين الحين والآخر أكتب مسرحية، فقد كتبت مسرحية بالألمانية في التسعينات، وفي عام 2014 اقترح علي ممثل مصري هولندي يقيم في هولندا اسمه "صبري سعد حمص" أن يتعاون معي في الكتابة عن أمهاتهم، فأمي ألمانية وأم حمص مصرية، لذا زرت مصر لمقابلة والدة حمص حتى يتمكن من الكتابة عنها، وبالفعل قمت بكتابة المسرحية والتي اخترت لها عنوان "أمهاتنا"، وتم عرضها في هولندا نحو 25 مرة بواسطة فرقته المسرحية، ونحن مازلنا أصدقاء حتى اليوم.
الشرق دوماً كان ساحراً للكاتب الهولندي، تأثر كثيراً في كتابته للرحلات بالتراث الأدبي العربي الإسلامي، وهو بالطبع جزء أصيل من التراث الأدبي العالمي "فأنا ولدت في هولندا، وأعيش حالياً في الولايات المتحدة، ولكنني كاتب أنتمي إلى الأدب العالمي ككل، بالتأكيد قد تأثرت بطريقة أو بأخرى بالتراث الأدبي العربي والعالمي فيما يتعلق بأدب الرحلات وغيرها"، مُشيراً إلى آباء أدب الرحلات في التاريخ مثل "السندباد البحري والبري" و "حكايات بن فضلان"؛ وأضاف أن هناك جانباً آخر لهذه الرحلات "حينما أسافر هنا أو هناك، ألتقي ببشر حقيقيين، وأحاول أن أتفاعل مع ثقافاتهم وتقاليدهم، أسمع كلماتهم وأرى ردود أفعالهم على الكلمات، سواء الإبتسامة أو الغضب، وهذا جزء من التفاعل أحاول أن أسجله وأستخدمه في رواياتي".
كان اللقاء معه في مقهى "ريش" الشهير بوسط البلد دافعاً لحديثه عن الأديب العالمي الراحل "نجيب محفوظ" الذي نحتفل بذكرى ميلاده هذه الأيام، كان دافعه الأساسي للجلوس في هذا المكان هو أنه كان يضم محفوظ وشلة حرافيشه في جلساتهم، يحكي "قرأته في العشرينات من عمري، مع أني لم أتفاعل مع ما قرأته، ولم أحسه عن قرب، ولكن أثناء زيارتي لوالدة صديقي صبري سعد حمص، أقمت في مصر فترة، وتجولت في شوارعها القديمة والحديثة، قررت أن أعيد قراءة نجيب محفوظ وكانت النتيجة مختلفة تماماً عن القراءة الأولى، فأنا مررت في زقاق المدق الذي صنع منه محفوظ تحفته الأدبية، وأجلس الآن على مقهى ريش الذي طالما جلس عليه هو وشلة الحرافيش، أكاد أعايش شخصيات الروايات وأحداثها بمعايشتي للمكان الذي مر منه نجيب محفوظ يوماً ما، فهو بالفعل كاتب عالمي عظيم".
باستثناء محفوظ جاءت قراءات جرونبرج في الأدب العربي الحديث قليلة، ربما لقلة الأعمال المترجمة التي تصل أخبارها إلى مسامعه "وأتمنى أن أرى مزيداً من أعمال الكتاب المصريين والعرب مترجمة إلى اللغات الأوروبية الأخرى، حتى يحدث التقارب الثقافي الحضاري بين شعوب العالم، وهو في رأيي سيحل العديد من الأزمات السياسية بين الشعوب، وسيصحح المفاهيم والرؤى عند الغرب عن البلدان العربية". لم يخض كثيراً في الحديث حول هذا الأمر، لنتحدث عن كتابه الذي صدرت طبعته العربية مؤخراً، لم يكن التجربة الأولى له في عالم القصص المصورة، بل سبقتها تجربة أخرى مع نفس الرسام هانكو كولك "قمت بعمل كتاب أصغر قليلاً، ولكن كان مستند إلى رحلة أخرى إلى العراق في عام 2008". 
يتحدث الصحفي الهولندي عن الجائزة التي افتتح كتابه المصور بالحديث عنها "هي ثاني أهم جائزة أدبية في هولندا، وهي تمنح على مجمل الأعمال، وقد منحت لي في نفس العام الذي كنت أخطط فيه لرحلة اسطنبول، وهو ما صعّب المهمة عليَّ لاستلام الجائزة، حيث لم أستطع أن اتراجع عن خطة السفر بعد حجز الطيران والفندق والمترجم، فقد تحدثت مع منسقي الجائزة، الذين تفهموا الأمر، وأرسلوا لشخص آخر لاستلام الجائزة بدلاً عني، ومن المثير أن ليلتي الأولى في اسطنبول هي ليلة استلام الجائزة".
يتفق جرونبرج مع كلمة مصور الحرب الذي ظهر واحداً من شخصيات كتابه المصور بأن "الفيلم يتلاشى.. أما الصورة فتبقى"، هز رأسه وارتشف من مشروبه وتابع "فعلاً.. عن طريق الكتابة، وليس فقط الصورة، يُمكن القبض على اللحظات الفريدة، وبالنسبة للكتاب المصور، فهو محاولة لعمل شيء أكثر قليلاً من كتابة مقال صحفي، فأنا أرى أن الكتابة الأدبية، بل والكتب بشكل عام هي محاولة للبقاء والتحدي مع الزمن، للإمساك بلحظة معينة، وربما تكون كلمة الأبدية كلمة كبيرة، ولكن فعلاً يحاول الأدباء أن يبقوا إلى الأبد من خلال أعمالهم".
تتعدد حكايات جرونبرج التي عايشتها في رحلاته ولم يذكرها في كتابه "هناك بالفعل العديد من الحكايات التي لم تذكر، فأنتما صحفيان وتعرفا حينما يكون الصحفي بين أشخاص، يتحمس البعض ويحاول آخرين ألا يجيبوا على أسئلته خوفاً، وعلى مستوى آخر هناك أموراً سياسية مجتمعية، مثلاً الوجود الطاغي للأكراد في تركيا، حيث تظهر القومية الكردية بقوة في الشارع التركي، كذلك في العراق حيث كان الوضع خطراً بالنسبة لأهل البلد، فما بالك بكاتب صحفي أجنبي، وهذا ما يسبب الغموض لدى بعض الأحداث في الكتاب، وكذلك حول العديد من الشخصيات داخل الكتاب تبدو غامضة، لأن هناك فعلاً كثير من الحقائق والمعلومات لا أستطيع أن أتحدث عنها"؛ قال هذا لكنه أضاف "ولكن هناك العديد من الشخصيات التي لا تنسى مثل المترجمة والرسام التركي ذو الأصول الكردية"، ابتسم وقد تذكر كلامهما وعاد يروي "بالنسبة للمترجمة، فقد كانت شخصية معقدة، فعلى الرغم من أنها سافرت معي من هولندا، إلا أنها كانت تخطط لرحلتها بطريقة مختلفة تماماً لخطتي، وبالتالي فمهمتها لم تنحصر عند كونها مترجمة، بل كانت تحاول أن تتدخل في الترجمة وفق رؤيتها، إضافة إلى انشغالها بأمور أخرى، كاصطياد عريس، أو التسوق، لدرجة أن سائق التاكسي نصحني بالتخلص منها لأنها ملأت التاكسي بالمشتريات التي لا فائدة من معظمها، لا أحاول أن أسحب الموضوع إلى ناحية شخصية ولكن هذا ما حدث؛ وبالنسبة للمصور، فهو دوره صغيرفي الكتاب، ولو أني كنت أود أن يكون دوره أكبر، فهو لم يكن مصوراً عادياً، ولكن قلة المعلومات عنه جعلت دوره أصغر مما كنت أرغب أن أضع في كتابي".
يؤمن الصحفي الهولندي الذي جال في أرجاء العالم بمقولة البرازيلي الأشهر باولو كويلو في أن الكنز دائماً في الرحلة "ويمكن القول بأن رحلتي تركيا والعراق كانت من أصعب الرحلات، وأكثرها ذخراً بالكنوز، فأثناء مقامي هناك كصحفي أجنبي في وقت شائك بالنسبة للعراق، كنت محاطاً بالحراس ضخام الجثة، وكانوا هم وسيط الترجمة بالنسبة لي لعدم معرفتي العربية، فكنت أحس طوال الوقت أنهم دائماً ما يخفون عني الكثير من الكلام الذي يقال، والذي أحس فيه بشيء ما، وكأنهم يتآمرون ضدي بدلاً من أن يسهلوا مأموريتي من ناحية الترجمة والحماية، وهذا كان كنزي في المعرفة في تلك الرحلة، والذي يتمحور حول النقلة الضخمة من تركيا للعراق، رغم تقاربهم، إلا أن هناك فارق حضاري ضخم بين البلدين، فمعرفتي بطبيعة البلدين والتعقيدات هو الكنز الحقيقي في الرحلة".
حديثه كان دافعاً لسؤال آخر حول ما يحدث في الشرق الأوسط وما آلت إليه أوضاع سوريا. تردد في البداية ثم وجد أن الأمر لا بأس به طالما يتحدث باعتباره إنساناً وليس سياسياً "فأنا مثقف في المقام الأول، وكمواطن غربي رغم تعدد الرؤى والتحليلات في الغرب لكنه زار حلب قبل الأحداث، ولم يكن يتوقع أحد أن تحدث تلك التطورات الدامية التي قلبت جميع الأوضاع هناك "هذه الأحداث تؤثر على المواطنين الغربيين بسبب الهجرات والنزوح الجماعي من سوريا إلى دول أوروبا، فالأحزاب اليمينية في أوروبا تشيع أن المهاجرين الجدد إرهابيين، وتتسبب في عدم قبول المواطنين المستضيفين للمهاجرين، لذلك يجب محاربة هذه الأحزاب اليمينية، التي تكسب الأصوات من ذلك، فهي تمثل فاشية جديدة يجب التصدي لها".
يُقارن جرونبرج في حديثه بين الوضع السوري وما حدث مع يوغوسلافيا في التسعينات من القرن الماضي "فالغرب تخلى عن سوريا، ففي سوريا تم ترك الساحة لدولة معينة لتلعب دوراً قذراً في سوريا، والذي جعل السوريون العزل في مواجهة قوى الشر في العالم"؛ مُشيراً إلى أن الموقف الغربي تجاه سوريا محيراً بدرجة كبيرة "ففي بداية الأحداث أعلنت الدول الغربية رفضها للتعامل مع الأسد، ولكن مع ظهور العصابات المسلحة والتنظيمات الإرهابية مثل داعش، غير الغرب موقفهم إلى قبول التعامل المشروط معه، ليس الأسد وحده هو القضية، فهناك جماعات مدعومة من إيران وأخرى مدعومة من السعودية، لذلك فإن الموقف السوري أعقد من أن نختصره في عدة أسطر".
أوضح جرونبرج خلال نهاية حديثه أنه ليست المسألة سوريا فقط "فهناك الكونغو التي تمر بحرب أهلية منذ أعوام، ومع ذلك لا يكتب عنها إلا القليل، فالمسألة ليست في تخلي الغرب عن سوريا فقط، بل يمكننا أن نقول بأن الغرب لعب دوراً قذراً في سوريا، ودماء السوريين على أيديهم".