رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شبلي شميل.. العقل والعلم والاشتراكية معًا "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لكن من حق القارئ أن يعرف عن أى اشتراكية تحدث شميل. فنحن إذ نقلب الأعمال الكاملة لشميل الذى طبعها فى مجلدين نتوقف فى حيرة أمام فقرات مثل «فالفوضوية والاشتراكية لا تطلب حقيقة إلا ما تراه كل يوم فى نظام الطبيعة الصامتة من اشتراك الجماهير فى تحقيق مصلحة الجماهير». بل إنه يتورط بلا مبرر فى الدفاع عن الفكر الفوضوى فيكتب مقالاً بعنوان «كتاب فوضوى» وينشر رسالة كتبها سجين فوضوى قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام معلقاً عليها «إن ما جاء فى هذه الرسالة من الحقائق سوف يؤيده المستقبل، فإن الأفكار التى تنطوى عليها هذه الرسالة كلها حقائق لا يخشاها إلا ضعاف العقول، وما ذنب كاتبها إلا زيادة الحماس وهو ما أدى به إلى التهور. والذنب يكون على المجتمع وليس عليه. 
والحقيقة ربما أن شميل قد تأثر كثيراً بمواقف بخنر الذى سبق أن ترجم شرحه على الداروينية. فبخنر أصدر كتاباً عنوانه «الداروينية والاشتراكية» وقد سبق لفريدريك إنجلز أن علق على هذا الكتاب فى كتابه «ودياليكتيك الطبيعة» قائلاً «إن بخنر يحاول أن يدافع عن الاشتراكية منطلقاً من فكرة الصراع على البقاء وليس الصراع الطبقي»، وقد كان بخنر عضواً فى الاتحاد العام للعمال الألمان. وحضر عدداً من الاجتماعات الدولية الثانية ممثلاً لهذا الاتحاد متخذاً فى الأساس موقفاً إصلاحياً. والحقيقة أن شميل لم يكن مؤيداً ولا معجباً بمواقف وتصرفات هؤلاء الفوضويين ولكنه يرى أنهم أداة مجرد أداة لتحريك الساكن فى مجتمع بليد ويقول «ولذلك كان أول خاطر يخطر للباحث المدقق عند ذكر هؤلاء الناقمين ليس الطرق التى يلجأون إليها وإنما لماذا هذا القلق الذى يسود المجتمع فى كل أطواره، ولا شك أن السبب هو عجز آليات المجتمع عن توفير الراحة»، ويمضى قائلاً «أنا لا أنكر أن الطرق التى يلجأ إليها هؤلاء الناقمون تكون أحياناً مرفوضة، إلا أنه يبدو أن مثل هذا الحراك القاسى لازم لإيقاظ الغافل وتنبيه الفكر، بدليل أن نظام المجتمع على ما هو عليه الآن به من الفظائع ما هو مرفوض ولكننا اعتدنا عليه» والحقيقة أن المفكرين الأوروبيين كانوا يتحدثون فى كتاباتهم على اختلاف مدارسهم على أساس أن الثورة توشك أن تنفجر فى ظل مجتمع صناعى متقدم وتبدو أوضاعه بأنها حبلى بالثورة، بينما يتلفت شميل حوله ليجد نفسه فى مجتمع لا تزال طبقته العاملة فى أولى مراحل التكوين والمجتمع نفسه يعانى من الكبت والاحتلال والتخلف والأمية والتقاليد البالية، وهكذا خضع شميل لتأثير تصوره السطحى لحركة الأحداث فى المجتمع المصرى، فتصور أن الطريق نحو الحديث الجاد عن الاشتراكية ما زال بعيداً جداً وأن الأساس المطلوب لذلك هو مجرد الدعوة للعلم. ومن هنا فقد تصور أن أوضاع المجتمع المصرى لن تسمح بتكوين أى تنظيم اشتراكى إلا بعد سنوات طويلة. وعندما سأله أحد محاوريه لماذا لا تؤسس حزباً اشتراكياً؟ اعتبر ذلك مجرد نكته سخيفة، بل إنه كان يتصور أن الوضع فى مصر من التخلف بحيث لا يسمح بإقامة أى حزب لأى طبقة من الطبقات ويقول «إن الأحزاب فى النظام الاجتماعى من الكماليات ونحن لا نزال فى حاجة إلى أقل من الضروريات ونشوء هذه الأحزاب لا يكون بمجرد افتعالها وإنما هى تنشأ من تلقاء نفسها متى أتاح لها الوضع الاجتماعى ذلك. وزعماؤنا يحاولون ابتداع أحزاب أتت كأجسام مشوهة فهم رؤوس بلا أجسام وإلا فليتحركوا وسنرى كم فرد سيتحرك وراءهم». 
وربما لو امتد الأجل بشميل لثلاث سنوات ليرى ثورة ١٩١٩ وما كان فيها من نضالات لجموع العمال والفلاحين والموظفين لتغير رأيه. لكننا لا نريد أن نترك شميل مظلوماً فهو مفكر شجاع وصاحب منهج علمى وعقلانى استطاع أن يحرك به وجدان كثير من المثقفين. وقد رأينا ماذا فعلت كتاباته فى شاب مثل إسماعيل مظهر. وأذكر أن عاملاً مصرياً وهو محمد دويدار وكان عطشجى بالسكة الحديد قال إنه كان قد حفظ كتاب شميل لشرح مقالات بخنر عن ظهر قلب «راجع محضر النقاش معه فى كتابنا عن تاريخ الحركة الشيوعية المجلد الثاني» ولكن شبلى شميل قد حظى باهتمام وتقدير لا بد أنه قد مات به وهو مستريح. فالأفغانى مثلاً امتدحه قائلاً «فالدكتور الشميل حكيم شرقى انخرط مع مجموع من العلماء من الذين أيدوا مذهب داروين وهجموا على مألوف الشرقيين، وقد تحمل الشميل فى نشر مذهب داروين وتحمله أعباء المكفرين له عن غير علم ما يعد فضلاً له وشجاعة. وإنى أقدر للشميل قدرته فى دقة بحثه وتحقيقه وجرأته على بث ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيبه من سخط المجموع». بل إن الخورى بولس الكفورى صاحب جريدة «المهذب» فى زحلة بلبنان قد وجه نداء للمصريين واللبنانيين على السواء للتبرع لطبع الأعمال الكاملة لشبلى شميل، فانهالت التبرعات وصدرت الأعمال الكاملة فى مجلدين. ومات شميل وتبقى خالدة على مر الزمان عبارته «الحقيقة أن تقال لا أن تُعلم فقط» فقد كان دائماً يسخط على من يعلمون الحقيقة، ويخافون من إعلانها جبناً. وما أكثر هؤلاء فى زماننا الحالى.