الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اليوم الأخير.. عبدالناصر و"دور الإنفلونزا" "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حاول الدكتور الصاوى أن يخفى الحقيقة مؤقتًا.. وأن يتعلل بحاجته إلى استشارة مجموعة من الأطباء.. لأنه يجد أمامه حالة إنفلونزا حادة وصامتة.. تقضى بقاء الرئيس في فراشه! وجاء عدد من الأطباء.. الدكتور محمد صلاح الدين والدكتور منصور فايز والدكتور على المفتى.. ومعهم الدكتور الصاوى حبيب.
وأعيد رسم القلب في المساء.. الدكتور الصاوى ما زال يتظاهر بأن المسألة مسألة إنفلونزا. وأن إعادة رسم القلب سببها أن بطارية جهازه قد نفدت.. عندما كان يقوم بالرسم في الصباح.. فلم تكتمل الصورة!.
وجاء الرسم الثانى للقلب تأكيدًا للرسم الأول! وكان من رأى الدكتور صلاح الدين أن يعرف الرئيس الحقيقة.. لأن تعاونه الكامل وبدقة مطلوب مع جهد الأطباء. وبدأ يقول له الحقيقة تدريجيًا. ثم يطلب منه في النهاية أن يبقى في الفراش بغير حركة لمدة ثلاثة أسابيع. وبعدها يعاد بحث الأمر على ضوء التطورات الصحية! ويكمل هيكل الحكاية.. وذهبت ليلتها أجلس مع الأطباء في غرفة الصالون في الدور الأول في بيته أسأل بالضبط في تفاصيل الحالة.. وعرف هو أننى موجود في البيت.. فدعانى إلى غرفته. وعندما دخلت.. كان جالسًا على مقعد.. على وشك أن يبدأ عشاءه.. قطعة من الخبز الجاف وكوب من اللبن الزبادى.. وسألنى بسرعة لكى لا يترك لى وقتًا للتفكير: كنت معهم؟ قلت: نعم قال: هل صحيح ما يقولون.. أو هي محاولة لتخويفى.. حتى يفرضوا على الإجازة الإجبارية!. قلت: إن الأمر يجب أن يؤخذ جدًا. قال بهدوء: ليكن.. ولكن المهم ألا يعرف أحد.. حتى لا تفلت «البلد»! ثم سألنى: كيف يمكن أن نفسر غيابى ثلاثة أسابيع! قلت: قد نقول إنها إنفلونزا.. لا يهم ما نقوله.. ولكن المهم أن تستريح. والمهم أنه ليلتها.. نفس الليلة.. لم يستطع أن يستريح!. ليلتها.. كانت هناك أزمة بين حكومة الأردن والمقاومة.. وبعث الملك حسين رئيس وزارته السيد بهجت التلهونى إلى القاهرة.. برسالة منه إلى عبدالناصر.. وجاء بهجت التلهونى يطلب مقابلة الرئيس.. وقيل له إن الرئيس تعرض لنوبة إنفلونزا وهو يرقد في فراشه. وقال بهجت التلهونى إنه إذا جاء بغير مقابلة عبدالناصر، فسوف يقدم استقالة وزارته! وتم التوصل إلى حل وسط اقترحه الرئيس.. وهو أن يجيء إليه التلهونى في غرفة نومه. يراه.. ولكن لا يبحث معه شيئًا! 
بحيث يستطيع أن يقول للملك إنه اجتمع بعبدالناصر.. لكنه بحث ما يريد مع السيد أنور السادات. ولم يعرف أحد بما جرى في تلك الليلة.. حتى السيدة الجليلة قرينته.. أخفينا الحقيقة عنها.. وإن بدأت تساورها الشكوك بعد ما وجدت المهندسين في البيت وعمالًا.. يشتغلون في تركيب مصعد! 
ولاحظت نظرات الشك في عينيها.. وكنت واحدًا من الذين تجنبوا نظراتها المتسائلة الجياشة بقلب ملهوف! ويكمل هيكل: وجلسنا بعد ذلك مجموعة من أصدقائه ومعاونيه نتحدث.. واتفق رأينا على أن نستعين بخبرة عالمية.. وكان تساؤلنا: لماذا لا نجيء بأكبر أطباء القلب السوفيت؟ وطارت رسالة سرية عاجلة إلى موسكو.. وجاء الدكتور شازوف وزير الصحة في الاتحاد السوفيتى.. وهو نفسه أكبر خبراء القلب. ومعه مجموعة من صفوة الأطباء. وأجرى الكشف. وكانت النتيجة نفس النتيجة! والعلاج نفس العلاج.. الذي اقترحه وطبقه الأطباء المصريون وقبل أن يعود شازوف إلى موسكو ذهب إلى زيارة عبدالناصر. كل ما يطلبه منه هو الراحة.. وقال الرئيس لشازوف: كان مقررًا أن أجيء إلى تسخا لطوبو لأستكمل الصراع لآلام التهاب الشرايين. قال شازوف: سيدى.. لم تعد تستطيع أن تجيء إلى تسخا لطوبو. لأن القلب لا يتحمل العلاج بالماء الطبيعى. إنما بعد مرور خمس سنوات على الأقل! وسكت عبدالناصر لحظة.. عرف وقتها أن عليه أن يتحمل القلب.. وأن يتحمل آلام التهاب الشرايين في نفس الوقت! وفى تلك الأيام.. راودته مرة أخرى فكرة الاعتزال.. ليس من أجل نفسه.. ولكن من أجل «البلد» أيضًا.. ومن أجل كل بلد عربى. كان لا يستطيع الوصول إلى القرار. وسمعته أكثر من مرة يقول لى خلال تلك الفترة.. سوف يفسر ذلك. مهما يكن. بأننى يائس من نتيجة المعركة. وذلك سوف يؤثر تأثيرًا كبيرًا على القوات المسلحة.. وعلى جماهير الأمة العربية.
وكان حديثه عودة إلى هذا الموضوع مرة أخرى.. كنا جالسين في غرفة الحكم الملاصقة لغرفة نومه.. وقلت له: ألا تستطيع تنظيم جديد.. أن تخفف عن نفسك بعض ما تحتمل!.
قال: لا تحلم.. إن الواقع لا يسمح لى بذلك.. كل وفد يجيء يريد أن يتحدث معى. كل مناسبة عامة لا بد أن أظهر فيها.. كل أمر متعلق بالمعركة وبالذات إستراتيجية المعركة لا بد أن أبت فيه بنفسى.. صميم المسألة كما يلي: «طالما أننى موجود فلا بد أن أباشر وإذا توقفت عن المباشرة. فلا يمكن أن أكون موجودًا». وبدأ التحسن يظهر في رسم القلب.. لكن الدكتور صلاح الدين كان يشعر أن التحسن لا يسير بالسرعة الواجبة. ولم يكن معتدلًا أن يتحسن شيء بالسرعة الواجبة.. كان هناك عمل كثير لتدعيم خط المواجهة.. وكان هناك عمل كثير لتعزيز موقف الثورة الجديدة في ليبيا. كانت هناك دورة مجلس الأمة يتعين افتتاحها.. ولا يمكن تأجيلها بعد الموعد الدستورى المقرر لها. ثم تلاحقت الحوادث.. وهو وحده.. يقودها وتقوده! مؤتمر القمة في الرباط.. وكل ما جرى فيه وزيارته الأولى إلى ليبيا.. ثم زيارته إلى السودان. وكان أطباؤه جميعًا في حالة يرثى لها! وخصوصًا في بنى غازى.. يوم وقف أربع ساعات كاملة على سيارة جيب.. يخوض بحرًا من البشر يتلاطمون من حوله كالموج الهائج. والغريب أن عبدالناصر نفسه كان ضمن المحافظين لحالة أطبائه! وقال لى الدكتور منصور فايز ونحن يومها في بنى غازي: إنه يسأل عنا.. كأنما هو الطبيب.. ونحن الذين نتألم! وعاد إلى مصر بإنفلونزا حادة.. وكان قد اقتنع بضرورة أن يستريح بعض الوقت! ويكمل هيكل بداية الأيام الأخيرة في حياة عبدالناصر قائلا: التطورات لم تتركه يستريح! فقد بدأت غارات العمق، ولا يمكن لأحد أن يصف شعوره عندما كانت تصله الخسائر بين المدنيين، خصوصًا بين الأطفال.. الذين كانوا أحب شيء في الوجود إلى قلبه.. وقرر أن يسافر إلى موسكو. وحينما عرف الدكتور الصاوى بقرار السفر.. دخل عليه والجد كله على وجهه.. وقال له: سيادة الرئيس.. هل صحيح خبر السفر إلى موسكو! قال الرئيس عبدالناصر: نعم.
قال الدكتور الصاوي: إن هذا مستحيل.. لأن الإنفلونزا لم تتحسن.. ودرجة الحرارة في موسكو كما عرفت ست وثلاثون تحت الصفر! قال الرئيس وهو يضحك: إننا لسنا ذاهبين للتزحلق على الثلج.. ولكن لعمل.. وقاعات الاجتماعات مدفأة. وقال الدكتور الصاوي: إننى أرى أن الإجازة الآن ضرورية قبل أي شيء آخر. وسكت عبدالناصر فترة.. والدكتور الصاوى واقف أمامه صامتًا ينتظر الرد. وجاء الرد من عبدالناصر بقرار مفاجئ: يا دكتور.. من الذي يعطينى هذه الإجازة؟ واحتار الدكتور الصاوى. ووجد نفسه ينطلق قائلًا: الطب يا سيادة الرئيس! هز الرئيس رأسه.. وقال: الطب لا يستطيع الوقوف أمام الموت.. هناك ناس يموتون كل يوم وبينهم أطفال.. ليس هناك طب يستطيع أن يعطينى إجازة في مثل هذه الظروف!.
واستعان الدكتور الصاوى في اليوم التالى بالدكتور منصور فايز يحاول إقناع الرئيس.. وقام الدكتور فايز بشرح كامل للموقف.. واستمع إليه الرئيس في إفادة.. ثم قال في النهاية: إن معنى ما تقوله لى الآن هو أنه يجب أن أترك هذه المسئولية وأمشى.. وأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك الآن!. وحزم الدكتور منصور فايز حقائبه.. ووضع نفسه على طائرة الرئيس إلى موسكو.. ومن الغريب أنه أحس بتعب هناك وسمع عبدالناصر فذهب إليه في غرفته بالدور الثانى في قصر الضيافة.. صاعدًا على السلم.. وكان صعود السلم من الممنوعات القطعية بالنسبة له! وعاد عبدالناصر من موسكو إلى القاهرة.. ثم إلى أسوان لموعد مع الرئيس تيتو.. وحاول أن يقنع كل المحيطين به «إننى بعد أن يسافر تيتو.. سأبقى بضعة أيام في أسوان». وسافر تيتو.. وبدأ الرئيس يستعد لأسبوع إجازة.. ولكن عم عبدالناصر توفى في اليوم الثانى في الإجازة المرتقبة! وركب عبدالناصر قطارًا من أسوان إلى الإسكندرية لتشييع الجنازة وعاد بعد ذلك إلى القاهرة. وكان تركيز إسرائيل قد بدأ على الجبهة المصرية بعنف حقود.