الخميس 09 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هكذا سرقت لوحة فان جوخ "١-٢"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى مارس من كل عام تحتفل الأوساط الفنية بوفاة الفنان فان جوخ،
ومن المؤكد أن تنشر الصحف والمجلات المهتمة بالفن على مستوى العالم المقالات المختلفة عن دراما حياة هذا الفنان العبقرى المجنون، الذى كانت حياته سيلا من طلقات الرصاص الفنى، وأنهاها برصاصة حقيقية، تخلص فيها بضغطة على الزناد من عذابه وحياته.
وقد تعقد الندوات، وقد يعاد عرض الأفلام السينمائية التى تصور حياة فان جوخ، آخرها الفيلم الأخير الذى قدمه الأمريكى فنسانت منيللى فى هوليود.
لكن أحدا لن يذكر فى هذه المناسبة «حسن العسال»، الذى يوافق شهر مارس ذكرى وفاته.
قد يكون من حق القارئ أن يتساءل: ومن حسن العسال هذا حتى يتذكر الناس حياته أو وفاته؟ وما علاقة ذلك بالرسام العالمى فان جوخ؟ 
لكن الحقيقة أن حسن العسال ينبغى أن يذكر فى هذه المناسبة، بل فى كل مناسبة للحديث عن فان جوخ.. أليس هو اللص الذى سرق لوحة أزهار الخشخاش؟ ثم ساهم فى إعادتها مرة أخرى إلى الحكومة المصرية؟
■ ■ ■
ذات يوم منذ سنوات استيقظت القاهرة على خبر مثير، عندما اكتشف المسئولون عن متحف محمد محمود خليل بالزمالك اختفاء لوحة «أزهار الخشخاش» من على جدران المتحف، أثار خبر سرقة اللوحة الشهيرة ردود فعل متباينة، فمن ناحية انطلق رجال البوليس فى عمليات بحث محمومة من أجل سرعة القبض على اللص المجهول وإعادة اللوحة الثمينة. 
ومن ناحية أخرى، فقد أحدث الخبر نوعا من الحمى فى أسواق شراء اللوحات الفنية العالمية، سواء المشروعة منها أو غير المشروعة.
وباءت كل جهود ومحاولات البوليس المصرى بالفشل، وتحولت سرقة لوحة فان جوخ إلى علامة استفهام لا تجد من يجيب عليها، والطريف أن وزارة الثقافة وهى الجهة المشرفة على المتحف الذى يواجه نادى الجزيرة الأرستقراطى حاولت من جانبها استعادة اللوحة المسروقة. بلغ الأمر ببعضهم أن لجأ إلى أحد المشعوذين لكشف غموض الحادث، لكن المشعوذ فشل فى تحديد شخصية اللص المجهول، ونجح فقط فى الكشف عن وجود سرقات أخرى تافهة لبعض مقتنيات المتحف من الفضيات! 
وبين إحباط وزارة الثقافة وفشل جهود الشرطة المصرية ولهاث الصحافة وراء الحادث الغامض، طرأت على بالى الفكرة المجنونة، التى كانت بداية معرفتى بحسن العسال لص لوحة «أزهار الخشخاش» التى كان الجميع يبحثون عنها بلا جدوى.
قلت لنفسى: لماذا لا أسرق لوحة أخرى.. من نفس المتحف؟
■ ■ ■
كنت قد أمضيت سنوات فى صحيفة «أخبار اليوم»، وأنا أكتب قصص الجريمة وأخبار الحوادث حين طالبنى رئيس التحرير إبراهيم سعدة بالكتابة عن حادث سرقة اللوحة. فكرت فى أن أضع خطة لسرقة لوحة أخرى من نفس المتحف، فى محاولة لإلقاء الضوء على الثغرات الأمنية بالمتحف التى سهلت سرقة لوحة فان جوخ.
وطوال أيام، ظللت أرصد وبشكل عادى كزائر من زوار المتحف، المداخل والمخارج، ورسمت فى خيالى خريطة تفصيلية لنوافذ المتحف، وحددت نوعية حجم الحراسة المفروضة عليه، ثم انتهيت إلى الخطة النهائية وحددت لها ساعة الصفر.
كانت ليلة شتوية باردة، لجأ فيها حارسا المتحف إلى كشك خشبى قريب احتماء من الصقيع، وعندما توقفت بسيارتى عن بعد، ترجلت بشكل عادى سائرا حول سور المتحف الحديدى. وفى لحظة خاطفة كنت قد قفزت فوق السور واندفعت عبر الحديقة نحو نافذة خلفية من خشب «الأرابيسك»، لم تتحمل سوى ضغطة خفيفة وانكسرت. 
وهكذا وجدت نفسى داخل المتحف... 
ووقفت وسط الظلام أتطلع إلى اللوحات الثمينة وهى فى متناول يدى، حين تطلعت إلى لوحة «أزهار الخشخاش» خيل لى فى الظلام أننى أرى على الحائط وجه فان جوخ نفسه. جذوة النار التى تشع من عينيه الغريبتين، ثم كأننى أقرأ سطورا فى إحدى رسائله إلى أخيه ثيو الذى يقول فيها: «صدقنى.. عندما يود المرء أن يكون فعالا، فعليه ألا يخشى ارتكاب بعض الأخطاء».
وقد كانت سرقة لوحة فان جوخ خطأ.
فهل هو خطأ اللص؟
أو خطأ المسئولين عن المتحف؟
الأهم: هل كانت السرقة خطأ لا بد منه؟!
أفقت من محاولتى «للتفلسف» فى مكان ووقت غير مناسبين، وكان لا بد أن أغادر المتحف بعد أن حققت هدفى بتصوير سهولة اقتحامه أو التسلل إليه، وأنه من الممكن سرقة لوحات أخرى غير «أزهار الخشخاش» التى قفز سعرها بعد إعلان خبر سرقتها فى الأسواق العالمية إلى ٤ ملايين دولار –وقتها- وبسرعة عدت من نفس المكان الذى جئت عبره دون أن ينتبه حراس المتحف لدخولى أو خروجى!
وبعد أن نشرت القصة..
فيما بعد.. قال حسن العسال لص اللوحة إنه فوجئ بأننى فى التحقيق الصحفى وضعت نفس الخطة التى سرق بها اللوحة! 
■ ■ ■
ربما لا يكون من المبالغة أن أزعم -مع الفارق بالطبع- أننى وجدت تشابها بين فان جوخ وحسن العسال! فقد فكرت فى أن كلا منهما كان عبارة عن «شيطان ملاك فى جسد واحد»، كان من المفترض أن يكون الهولندى فان جوخ مبشرا دينيا، بل عمل كذلك، ففى بوريناج قبل أن يمسك الريشة لأول مرة يكتشف الفنان المجنون فى أصابعه، يطرد من حظيرة المبشرين إلى دنيا صعاليك الفنانين.
مثله أيضا كانت حياته سلسلة من الإخفاق العاطفى، وكان حسن العسال، وهو شاب مصرى رشيق القوام ولد فى أسرة ثرية يعمل عائلها فى الهيئة القضائية، وكان يفترض أن يكون حسن العسال قاضيا أو محاميا، لكن الطفل الذى كان يقفز من بيت أهله إلى حديقة بيت الدكتور طه حسين المجاورة، لم يكن يتخيل أنه سيصبح واحدا من أشهر اللصوص فى مصر. 
فبعد أن فشل فى دراسته، وكانت له ميول فنية فى الرسم، خرج مطرودا للأبد من بيت العائلة إلى الشارع، حيث جرفه تيار الضياع والجريمة إلى قاع المدينة الذى يختلط فيه البسطاء باللصوص.
لكن أغرب ما اشتهر به «حسن العسال اللص» أنه كان خلال مغامراته الليلية فى عالم الجريمة يرتدى حذاء الباليه، الذى يساعده على القفز برشاقة الفهد عبر أسطح البيت، دون أن يشعر به أحد.
تلك لم تكن ميزة اللص الوحيدة.
فقد قال لى ذات يوم: إننى أبدا لم أسرق فقيرا!
والأسبوع القادم نكمل المقارنة بين العسال وجوخ