الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صيحات التجديد الديني ( 33 )

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونأتى إلى مجدد من نوع خاص ، رجل علم نفسه كيف يحب العلم إنه أحمد أمين، يعرفه الناس بأنه صاحب "فجر الإسلام" و "ضحى الإسلام" و "ظهر الإسلام" هذا الجهد الموسوعى الأكثر من رائع ، ولعله من فرط روعته قد ألقى بعباءته فوق كتابات أخرى بالغة الأهمية ليخفيها عن وعى القراء فهناك "فيض الخاطر" [وضم مقالاته منذ 1918 وحتى 1954] فى عشرة أجزاء ، و"الشرق والغرب" و "حياتى" و "ثورة العالم الاسلامى اليوم" و "محمد عبده" و "زعماء الإصلاح فى العصر الحديث" و "علمتنى الحياة" وعديدًا من الكتب الهامة الأخرى ، ولكن الملفت للنظر هو ترجمته عن الانجليزية لكتاب "مبادئ الفلسفة" "تأليف رابوبرت" وتبدو المسألة مثيرة للدهشة فكيف تعلم أحمد أمين الانجليزية وأتقنها كى يترجم كتاباً فى الفلسفة شديد الصعوبة فى لغته وفى محتواه ؟ ونتركه ليجيب على هذا السؤال "فى جلستنا على أحد المقاهى تحدث صديق عن كتاب لمستشرق أمريكى اسمه ماكدونالد بعنوان "Theology of Islam" وحدثنى عن أهمية ما به وبدأت على الفور فى دراسة اللغة الانجليزية على يدى مدرسة انجليزية مقابل 150 قرشًا فى الشهر لكنها لم تفدنى كثيراً، حتى تعرفت على أستاذة أخرى هى مس بور "وكانت سيدة ذات شخصية نافذة وعقلية ناقدة مدهشة تجيد الألمانية والانجليزية والفرنسية وتكتب فى التاميز الانجليزية وكانت تقرأ معى كتاب "جمهورية أفلاطون" فى طبعته الانجليزية ، ثم سيدة ارستقراطية انجليزية أعلمها العربية مقابل أن تعلمنى الانجليزية . هذا هو الرجل الذى أدرك قيمة العلم فعلم نفسه . فمن هو وكيف كانت البداية . دخل الكتاب وحفظ كثيراً من القرآن ثم مدرسة "أم عباس" "وكانت مدرسة فخمة ساحاتها من المرمر وأسقفها مذهبه وبدلا من جلبابى ارتديت بدلة وطربوشا وخالطت تلاميذ الطبقة المتوسطة .. ووجدت فصولا تعلم الجغرافيا والحساب والتاريخ والفرنسية" ثم يقول "وكان أبى حائرًا بين التعليم الازهرى الذى يوقره ، وبين التعليم الحديث الذى أحبه فأمسك بالعصا من منتصفها ليعدنى للتعليم الحديث وللتعليم الازهرى معا" ثم "قرر أبى أن يخلعنى بدلتى وطربوشى ويلبسنى الجبة والعمة والمركوب .. وتضرعت لأبى أن يعيدنى لمدرستى فأبى .. ويقول "وركبنى الهم وأنا صغير. وكنت أدرس الفقه الحنفى ولا أكذبكم شيئاً فقد جلست للشيخ فى درس الفقه .. ولم أفهم كلمة مما قال ، فزدت إنصاتًا ، فما وجدتنى أفهم مما سبق ، ثم ذهبت إلى درس النحو وكنا نقوم بالتحضير له مسبقًا فلم يشفع لى تحضير ولا تنسيق فذهبت لدرس الجغرافيا والحساب فوجدتنى أفهم وأسأل وأشارك فزادت كآبتى وكأننى كنت منذوراً لنوع خاص من التعليم" وكان أحمد أمين لا يمل من السعى نحو العلم والتعليم فسمع أن الشيوخ يتهمون محمد عبده باتهامات غليظة منها الكفر والإلحاد فسعى إليه وسمع على يديه شرح كتابين من كتب الإمام عبد القادر الجرجانى وهو واحد من ألمع البلاغيين العصر العباسى الثانى وهما "أسرار البلاغة" و "دلائل الإعجاز" .. وقد حكى لنا ذات يوم عن خطاب وصله من طالب يتهمه بالكفر وأنه سيقتله جزاء ذنبه ، وضحك الإمام ساخراً وقال : تمنيت أن يكون هذا صحيحاً ، فيوم يتشجع المصرى ويقتلنى أكون فخوراً ، ثم أنشد بيت جرير الشهير :
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا
أبشر بطول سلامة يا مربع
[احمد أمين – حياتى ، وأيضاً نسخة حياتى المبسطة لإبراهيم حمزة]
لكن الحدث الأهم فى تاريخ احمد أمين الفكرى والتجديدى كان مساهمته مع جمع من أصدقائه فى تأسيس "لجنة التأليف والترجمة والنشر فى عام 1914 وتولى أحمد أمين رئاستها لمدة تزيد على ثلاثين عاماً متواصلة ، وقد أصدرت هذه اللجنة أكثر من ثلاثمائة كتاب يعتبر كل منها أداة فاعلة فى معركة التنوير والتجديد [عمر الدسوقى – فى الأدب الحديث – الجزء الثانى – صـ 166] ، كما أسهم فى تحرير مجلتى الثقافة والرسالة [1939] وأسس الجامعة الشعبية [1945] .
لكن الحدث الأهم فى تطور فكر أحمد أمين كان فى ابتعاده عن التعليم الأزهرى ونقرأ له "أستطاع محمد عبده أن يقنع سعد باشا زغلول عندما كان وزيرًا للمعارف بعقم نظام المحاكم الشرعية ، ومن ثم تأسست مدرسة القضاء الشرعى فأسرعت للانضمام إليها" [أحمد أمين – فيض الخاطر – الجزء السابع – صـ192] . وفى عام 1926 أصبح مدرساً فى كلية الآداب بناء على ترشيح قوى من طه حسين . [أحمد أمين - حياتى – صـ196] وهكذا أستقرت أحوال أحمد أمين وبذل أغلب وقته فى القراءة والكتابة مستمتعاً بها ونقرأ له "وكانت الكتابة بالنسبة لى كيفاً أقبل عليها متسلطنا كما يشعر مدمن الدخان أو الخمر [حياتى – صـ303] .
والآن ها نحن أمام مثقف من نوع جديد أزهرى أتقن الفقه والشريعة – رغم أنفه – وأديب ولغوى [أصبح عضواً فى مجمع اللغة العربية بمصر وفى المجمع العلمى بدمشق] . ثم هو مثقف بثقافة غربية رفيعة فقد أتقن الانجليزية اتقاناً مكنه من مطالعة أكثر الكتب الفلسفية تعقيداً ثم مكنه ترجمة العديد من الكتب .
.. فماذا فعل هذا المزيج بين الثقافة الدينية والثقافة الغربية فى معركة التجديد الدينى ؟