الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

مصريات

قاهرة الفرنسيس.. حلم نابليون الذي انهارت يومياته

الجبرتي ومذكرات الضباط الفرنسيين تؤرخ لسنوات الحملة في مصر

جيوش نابليون بونابرت
جيوش نابليون بونابرت
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في السادسة من صباح 19 مايو 1798، غادرت أكثر من 300 سفينة ميناء تولون الفرنسي في طريقها إلى مصر، وضمت ما يقرب من 54 ألف شخص، بينهم أكثر من 36 ألف جندي، تحت قيادة الجنرال الأشهر نابليون بونابرت، الذي قاد حملته على مصر، بينما لا يزال في سن التاسعة والعشرين.

ضمت السفن على متنها أكثر من 160 مدنيا، بينهم مهندسون ومعماريون وعلماء فلك وعلماء نبات ورسامون وأطباء ومستشرقون. كان من هؤلاء عالم الرياضيات جاسبار مونج، والمخترع نيكولا جاك كونتيه والكيميائي كلود لوي بيرتوليه.

وبعد عدة انتصارات عسكرية، مثل الاستيلاء على مدينة الإسكندرية ومعركة إمبابة والأهرامات في مواجهة المماليك، بدأت الهزائم تلحق بالجيش الفرنسي. 

فقد غرق الأسطول الفرنسي في أبو قير في بداية أغسطس في معركة بحرية مع الإنجليز بقيادة الأدميرال نيلسون. وهو ما أصاب على الفور الجيش بالشلل، إضافة لوقوعه لاحقًا أيضًا ضحية لوباء الطاعون، وتوقف توسعه تحت أسوار عكا. 

وفي 22 أغسطس 1799، غادر الجنرال بونابرت إلى فرنسا، هربًا من البحرية الإنجليزية، تاركًا وراءه جنوده الذين اضطروا للاستسلام بنهاية المطاف في 31 أغسطس 1801.

"أول سِنين الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف أحوال وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"

"الجبرتي" في وصفه دخول جيوش بونابرت مصر

رسم لأحد المستشرقين للحملة الفرنسيية على مصر

قبيل دخول الفرنسيين مصر، كتب الرحالة الألماني "جون أنتيس" قائلاً: "بنظرة سريعة على الخريطة، يتضح لنا من أول وهلة أن الموقع الذي تشغله مدينة القاهرة يؤهلها لأن تكون مركز التجارة بين أكثر شعوب الدنيا كثافة بالسكان.

فطريق البحر الأحمر يؤهلها أن تكون أقصر الطرق للاتصال بالهند وبلاد العرب والحبشة، وطريق البحر المتوسط يؤهلها أن تكون بالمثل بالنسبة لجنوب أوروبا وبعض أجزاء إيطاليا، وعن طريق جبل طارق تتصل بما تبقى من العالم؛ بل حتى بأمريكا، وعن طريق البحر الأسود تتصل ببقية الممتلكات التركية وبالروسيا، ويمكن أن تمتد من هناك عن طريق الملاحة في الأنهار التي تصب في البحر الأسود؛ لتصل إلى قلب الروسيا وألمانيا وبولندا".

تحصين القاهرة

عمل بونابرت على تطويق القاهرة، وإنشاء العديد من الحصون الرئيسية بخطة ممنهجة لعمل حلقة متصلة بالجنود والعتاد حول المدينة ليمنع من خلالها أي إمدادات. ووفق إحدى خرائط الحملة الفرنسية، فقد قام بعمل أكثر من 14 حصنا رئيسيا بمحاذاة حدود القاهرة.

عند ميدان الظاهر بالحسينية، أقام الجنرال الفرنسي حصنا مستخدما مسجد الظاهر بيبرس، وعدل عليه لكي يتم تهيئته إلى حصن كان هو المركز الذي أسس عليه تحصيناته حول القاهرة. فيما بعد، أطلق على تلك الحصون أسماء جنوده الذين لاقوا حتفهم في ثورات القاهرة أو غزواته في الشام، من ضمنها حتى تلك الأبراج الفاطمية الواقعة شمال سور القاهرة الشمالي.

وقام نابليون من أجل تحصيناته بإحداث تغييرات عمرانية ضخمة في الحسينية. فقد تمت إزالة كل الأبنية والعمائر المجاورة لمسجد الظاهر بيبرس، بالإضافة إلى إزالة حي الحسينية بالكامل وهدم جميع البيوت فيه، لأنه الحي الذي خرجت منه العديد من الثورات والانتفاضات على نابليون ورجاله، وتسببت في مقتل صديقه سولكوفسكي عن باب الفتوح.

أما الأزهر، فقد تم تطويقه تماما، فمن ناحية الشرق -حديقة الأزهر وشارع الدراسة الآن- تم إنشاء حصنين كاملين فيه باسم ريبول وديبو حيث تم استغلال الباب الفاطمي القديم في تلك المنطقة وهو باب البرقية وإقامة حصن كامل. 

ثم إنشاء حصن آخر "طابية نابليون"، عند الناحية الشرقية من الأزهر -قبالة مستشفى الحسين الآن- وهذان الحصنان عملا على تفريغ تلك المنطقة من السكان تماما حتى يكون خط دفاع آمن من هجمات المصريين الخارجين من المسجد الأزهر والساكنين في الأحياء المجاورة أيضا.

على نفس الخط تقريبا، تجاه القلعة، عند ما تسمى بـ "الخانقاه النظامية"، عملت الحملة الفرنسية على تخريب الخانقاه واستغلال موقعها الاستراتيجي المرتفع، لتضرب به أهالي حي الدرب الأحمر وباب الوزير، فتم تجهيز الخانقاه كموقع عسكري، بتعديلات على نمط العمارة فيها وشكلها.

في المقابل من الناحية الأخرى أيضا، هناك باب القرافة في ميدان السيدة عائشة، والذي كذلك تم استغلاله ليكون أحد حصون الحملة الفرنسية.

رسم تخيلي بالذكاء الاصطناعي لعلماء من الحملة الفرنسية في شوارع القاهرة - البوابة نيوز

ثورة القاهرة الأولى

كان الجبرتي في كتاباته، سواء "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، أو "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس" يهتم في رصده الأحداث اليومية، ألا ينسى ذكر آثارها وانعكاساتها على المجتمع المصري -حضَرَه وريفه- وحالة الفزع والرعب التي استولت على قلوب مختلف فئات الشعب من جراء الفوضى والاضطراب التي أصبح يعيشها رجال الإدارة والبكوات المماليك، ساعة دخول الفرنسيين، وهروبهم من مواجهة قوة الحملة، وترك فئات المجتمع الأخرى تواجه مصيرها.

سجّل الجبرتي ما تعرّض له الشعب المصري من المصادرات المختلفة والمتكررة، ورصد أحداث ثورة القاهرة الأولى ضد الحكم الفرنسي، وضراوة معاركها، وضرب الفرنسيين لخط الجامع الأزهر بالقنابل بعنف.

وذكر الجبرتي دخول الفرنسيين الجامع الأزهر -مركز الثورة- بقوله: "وهم راكبون خيولهم، وَولجوه من الباب الكبير، وخرجوا من الباب الثاني حيث موقف الحمير. وداس فيه المشاة بالنعالات، وهم يحملون السلاح والبندقيات، وتفرّقوا في صحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والبحرات، وكسروا القناديل والسهّارات، وهشّموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشّتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالاتهم داسوها".

كما رصد في "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس" -الذي كتبه أثناء الحملة الفرنسية ثم عاد ونقّحه وأهداه إلى الوالي العثماني الجديد على مصر عقب جلائهم- مظاهر الخراب في أحياء القاهرة التاريخية العريقة والبديعة. فذكر المباني التي هدموها أثناء ثورة القاهرة على هؤلاء المحتلين، في كل من الأزبكية وبولاق والقاهرة.

وقال إن بركة الفيل التي "كان ما حولها من الدُّور والمتنزّهات والبساتين، صارت كلها تلالا وخرائب وكيمان أتربة، وقد كانت هذه البِرْكة مِن أجمل مُتنزِّهات مصر قديمًا وحديثًا".

رسم للذكاء الاصطناعي للفرنسيين في شوارع القاهرة - البوابة نيوز

الانغماس مع المصريين

كما ذكر الجبرتي فظائع الفرنسيس وجرائمهم، وانحلالهم الأخلاقي وسفور النساء، وتعاطي المسكرات والأكل والشرب في نهار رمضان؛ ذكر أيضا اهتمامهم بالعلم، وتمكين المتخصصين في العلوم المختلفة من العمل، وإمدادهم بما يحتاجون من أدوات، وإتاحة الفرصة لمن أراد من المصريين أن يطَّلع على المعارف والعلوم.

واهتم الفرنسيون بالانغماس في تفاصيل احتفالات المصريين الدينية. ففي أول أغسطس لهم في مصر، سألوا الشيخ البكري عن عدم إقامة الاحتفال بالمولد النبوي. ولما تعذر بقلة المال، صرف له بونابرت 300ريال فرنسي لإقامة الاحتفال.

كما جعل الغزاة الجدد المماليك هدفا لمطارداتهم للاستيلاء على أموالهم؛ وزعموا أن ذلك للانتقام مما كان يقوم به المماليك مع التجار الفرنسيين القادمين إلى مصر.

أيضا، قام علماء الحملة بأول تعداد لسكان مصر منذ العصور القديمة، كما قاموا بحصر كامل أراضي البلاد الزراعية، وبيوتها وحوانيتها ومقاهيها، وسجلوا أحوال أهلها من مختلف فئات المجتمع، وأعداد المتعلمين -أي القادرين على القراءة والكتابة- وبدا ذلك في ثنايا وصف الجبرتي لما يحدث يوما بيوم، وبسبب طريقته التفصيلية في الحكي.

كما اتخذوا من منزل إبراهيم كتخدا السناري سكنا لمجموعة من الرسامين والفنانين من أعضاء البعثة العلمية التي جاءت برفقة الجيش الفرنسي عام‏ 1798‏. وعقب جلاء الحملة أدخلت لجنة الآثار العربية "بيت السناري" في عداد الآثار وأجرته بقيمة اسمية لشارل جالياردو بك، فأنشأ فيه متحفا ومكتبة أطلق عليها اسم "متحف ومكتبة بونابرت‏".‏

"من بونابرت إلى الجيش، لقد دفعتني الأنباء الواردة من أوروبا أن أقرر الرحيل إلى فرنسا تاركا قيادة الجيش للجنرال كليبر، يعز عليّ ترك الجنود مع ارتباطي بهم لكنه وضع مؤقت، واعلموا أن الجنرال الذي خلفته يحظى بثقة الحكومة وثقتي"

نابليون بونابرت- 22 أغسطس 1799

لوحة تمثل جيوش الحملة االفرنسية ومدافعها

ثورة القاهرة الثانية

كان خليفة نابليون مشغولا في المناوشات مع جيوش العثمانيين التي تحاول استعادة مصر. وبينما كان القتال دائرا بين جيش الصدر الأعظم والفرنسيين، جاءت ثورة أهل القاهرة الثانية التي استمرت شهر تقريبا (مارس-أبريل 1800)، وقد "ماجوا ورمحوا إلى أطراف البلد وقتلوا من صادفوا من الفرنسيين".

هذه المرة، وبخلاف ما حدث في الثورة الأولى التي كانت شعبية تماما، لعب أعيان القاهرة وتجارها وكبار مشايخها دور كبير. فقد خرج السيد عمر مكرم نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار على رأس جمع كبير من عامة أهل القاهرة، وأتراك خان الخليلي والمغاربة المقيمين بمصر وبعض المماليك قاصدين التلال الواقعة خارج باب النصر، وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصى والقليل معهم السلاح.

كما احتشد جمع آخر، وصاروا يطوقون بالأزقة والحارات وهم يرددون الهتافات المعادية للفرنسيين. ثم اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من القبط والشوام وغيرهم، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية. كما روى مؤرخي تلك الأيام.

أحضر الثوار ثلاثة مدافع كان الأتراك قد جاءوا بها إلى المطرية، وجلبوا عدة مدافع أخرى وجدت مدفونة في بيوت الأمراء، وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد وأحجار استعملوها عوضا عن الجلل للمدافع لضرب مقر القيادة الفرنسية بالأزبكية.

كما أنشأ الثوار مصنعا للبارود بالخرنفش، واتخذوا بيت القاضي وما جاوره من أماكن من جهة المشهد الحسيني مقرا لصناعة وإصلاح المدافع والقذائف، و"عمل العجل والعربات والجلل".

أيضا، أقاموا معسكرا للأسرى بالجمالية، وبثوا العيون والأرصاد للتجسس على المحتلين واستكشاف خططهم ونوايهم ولم يتوانوا عن أخذ كل من تعاون مع الفرنسيين من الخونة بالشدة والعنف.

وسرعان ما انتقل لهيب الثورة، إلى بولاق "فقام الحاج مصطفى البشتيلي ومن معه بتهييج العامة، وانقضوا بعصيهم وأسلحتهم ورماحهم على معسكر الفرنسيين، وقتلوا حراسه ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا منها، وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس، واستعدوا للحرب والجهاد". حسب الجبرتي.

وكافح القاهريون بكل ما في وسعهم من جهد، ووصل المجاهدون الليل بالنهار في قتال عنيف شارك فيه الجميع بحيث "لم ينم سوى الضعيف والجبان والخائف" كما يقول الجبرتي؛ وقد راحوا يصلون العدو نارا حامية من بنادقهم، في حين كان هناك من يمدهم خلف المتاريس بما يحتاجون من مؤن. 

وعندما عاد كليبر إلى القاهرة بعد ثمانية أيام من اشتعال الثورة وجدها قد تحولت إلى ثكنة عسكرية، فأمر بتشديد الحصار عليها ومنع المؤن؛ كما لجأ إلى الاتصال بمراد بك -أحد زعماء المماليك- وتفاوض الاثنان على الصلح، وأبرمت بينهما معاهدة بمقتضاها أصبح مراد بك حاكمًا على الصعيد في مقابل أن يدفع مبلغًا إلى الحكومة الفرنسية.

كما قدم مراد بك للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلمهم العثمانيين اللاجئين له، وأرسل لهم سفنًا محملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحداث الحرائق بالقاهرة.

أمّا كليبر فقد دك القاهرة بالمدافع، وشدد الضرب على حي بولاق، فاندلعت ألسنة النيران فيه، والتهمت الحرائق عددا من المباني والقصور في الأزبكية وبركة الرطلى.

وذكر الجبرتي أن الفرنسيين "فعلوا بأهل بولاق ما يشيب من هوله النواصي. فنزلوا بهم ذبحا وتقتيلا، حتى صارت الطرقات والأزقة مكتظة بجثث القتلى، وأشعلوا النيران في الأبنية والدور والقصور، ونهبوا الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وبابها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، ومالا تسعه السطور، ولا يحيط به كتاب ولا منشور".

"أي غم وأسى أصابنا حينما علمنا بنبأ وفاة كليبر مغتالا بيد آثمة. ولو أن أبا عزيزا علينا هو الذي فقدناه ما كنا بكيناه بالمرارة التي بكينا بها هذا القائد العزيز صديق الجنود. من لنا بخليفة بمثل قدره يكن لنا نفس القدر من الود كهذا القائد الكريم؟ أين نجده؟"

الضابط جوزيف ماري مواريه في "مذكرات عن حملة مصر" التي نشرها عام 1818

رسم تخيلي لاغتيال الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبي- وكالات

محاكمة الحلبي

في عصر 14 يونيو 1800، كان الجنرال كليبر ذاهبا عائدا من جزيرة الروضة بعد تفقد عرض عسكري لكتيبة من الأروام انضمت للجيش الفرنسي في مصر، وكان بصحبة المهندس المعماري "بروتان"، الذي صاحبه لمتابعة أعمال ترميم مقر القيادة العامة، ودار إقامته في الأزبكية، الذي أصيب بأضرار خلال انتفاضة القاهرة الثانية. ثم انصرفا معا إلى دار الجنرال "داماس"، رئيس الأركان، لتناول الغداء مع مجموعة من القادة وأعضاء المجمع العلمي.

وبينما كان كليبر وبروتان يسيران في حديقة القصر، خرج عليهما رجل اقترب من كليبر مستجديا شيئا، فلم يخالج كليبر ارتياب من نوايا الرجل فمد إليه يده. كان الرجل هو سليمان الحلبي الذي أسرع يطعنه في قلبه، وعندما أسرع بروتان للإمساك به، كان نصيب المعماري ست طعنات سقط بها على الأرض. ثم عاد الحلبي إلى كليبر مرة أخرى وطعنه ثلاث طعنات للتأكد من قتله، على الرغم من أن الطعنة الأولى كانت القاضية على حياة الجنرال وفقا لتقرير كبير أطباء وجراحي الحملة الفرنسية "ديجنيت".

وبينما تلقى أهالي القاهرة نبأ اغتيال كليبر بخوف وحذر من ثأر الفرنسيين. تلقاه الفرنسيون بحزن وحذر من اندلاع انتفاضة ثالثة من الأهالي، وهددوا بالثأر وإحراق المدينة انتقاما لمقتل قائدهم، وأُطلقت دوريات عسكرية للبحث عن الجاني. 

وعثر الجنود بعد ساعة واحدة من الاغتيال على الحلبي مختبئا خلف جدار في حديقة مجاورة. حيث أدركه اثنان من حرس مقر القيادة، وعثرا على الخنجر الذي طعن به كليبر وبروتان مدفونا في المكان وعليه أثر دماء؛ كما تعرّف عليه بروتان بعد وضعه وسط مجموعة من العمال، بغية التأكد من عدم الخلط بينه وبين شخص آخر.

مذكرات كليبر

وكانت قد تشكلت محكمة عسكرية يومي 15 و16 يونيو 1800 للنظر في القضية. ونُشرت تفاصيل التحقيقات في قضية مقتل كليبر بثلاث لغات، الفرنسية والتركية والعربية. وحملت النسخة العربية اسم "مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كلهبر"، وهي نسخة كتبها مترجمو الحملة أنفسهم، ونُشرت بمطبعة الجمهورية الفرنسية في مصر عام 1800، اعترف فيها الحلبي بتفاصيل الخطة. 

كان الجبرتي معجبًا باحترام الفرنسيين للإجراءات القانونية والتقاضي. وكتب عن قصة محاكمة سليمان الحلبي، الذي اتُّهم بقتل الحاكم العسكري "كليبر" -الذي نصّبه نابليون بنفسه خلفا له في البلاد- بعد ذكر معرفته بتشوُّقِ الناس لمعرفة هذه القصة، والتي كان أعرض عن ذكرها لرداءة أسلوب المذكرات التي طبعها الفرنسيون بشأنها: "ثم رأيت كثيرًا من الناس تتشوَّق نفسه إلى الاطلاع عليها لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام".

يضيف: "رتبوا حكومة ومحاكمة، وأحضروا القاتل، وكرَّروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجمعين، ثم نفَّذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم، وأطلقوا مصطفى أفندي البوصلي الخطَّاط، حيث لم يَلْزَمْه حُكم، ولم يتوجَّهْ عليه قصاص".

ويشير في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" إلى أن محاكمة سليمان الحلبي والمتهمين في هذه القضية كانت غريبة على المصريين في ذلك الوقت، كما يظهر من نبرة وصفه لإجراءات التحقيقات: "ألفوا في شأن ذلك أوراقا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية... لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة -إصدار الحكم- ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة -الفرنسيين- الذين يحكمّون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه -جعلوه يعترف- ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه، ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدمِ ساري عسكرهم وأميرهم".

وحكمت المحكمة بإحراق اليد اليمنى لسليمان الحلبي، وإعدامه على خازوق مع ترك جثته للطير. وإعدام شركائه بقطع رؤوسهم وإحراق جثثهم بعد تنفيذ الإعدام، ومصادرة أموال المتهم الهارب عبد القادر الغزي".

ويقول الجبرتي، إن حكم الإعدام نُفذ قبل مراسم تشييع كليبر، في حين تقول الوثائق الفرنسية إن تنفيذ الحكم جاء بعد مراسم دفن القائد الفرنسي.