الإثنين 06 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداع البوابة.. "المجهولة الصامتة" قصة قصيرة لمحمد زكريا

محمد زكريا
محمد زكريا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كانت رقيقة نحيفة وفى قوامها الهش الدقيق إشعاع روحى ويقظة فذة،وفى قسمات وجهها شفافية قصوى،وبشرتها وردية بغير زينة،وشعرها أصفر غزير ينتشر على ظهرها ،مضئ لفرط حيوية شبابه،وعيناها لوزيتان صافيتان ضاحكتان وان كانت فى أعماقها وحشة حزن دفين،لكن فى سواد عينيها صراحة عذبة وقوة آسرة،وحليتها سلسلة  من الذهب حول عنقها..فلما تكلمت سحره صوتها الخافت العطر بكل عمقه،كأنه يغنى الكلام ،وكأن الكلام به لا يسعه إلا أن يكون غناء،،ولاول مرة فى حياته هام حقا بامرأة من النظرة الأولى ،وانتشى بجمالها ووقارها الساكن وهى جالسه تتحدث.

ولم يكن يعرف قبل أن يدخل الكافية فى ذلك المساء أنه سيلتقى بها ..ولم يتوقع أن تهتز نفسه لها هذه الهزة العجيبة،الاولى فى حياته..لهذه المجهولة التى يتألق شخصها بنفحة من الامتياز تستبعد الالفة وتفرض على الناس احترامها..

وقد دخل هو البيت فى تلك الليلة وهو رجل يائس من مسرة الحياة..أن فى حياته الشباب والحرية والثقافة والصداقة وشيئا من اليسر والصيت،وهو مع ذلك ملول سأمان،تدور أفكاره فى دائرة واحدة من وهن وخمول وهرب من الواقع،،كما تدور الخيل فى حلبة الملعب..كان يحس لحياته رتابة شاحبة مرهقة،ويرى الحياة بعد التجربة عبثا عقيما،، ويعانى شعورا دائما أن الحياة خدعة..مملة ومخيبة لكل رجاء..وما الحب والنجاح والمال والفلسفة والعمل الا ألفاظ وأغلال..وما الحب ! خرافة من خرافات البشر!
أن الحب ليس إلا الوهم الذى يزين لكل إنسان أنه يسعه فى هذه الحياة أن لا يكون جزيرة مستوحدة موحشة .. والسعادة؟ 
أنها ظلنا الذى يجرى أمامنا والشمس فى ظهرنا..واحمق من يظل يجرى وراء ظله مسرعا ليلحق به!
وهم وسراب نضع احلاما جميلة نأخذها مأخذ الجد..
ونضفى عليها جمالا شاعريا وعظمة زائفة ،وما هى إلا القالب الفطرى العتيد للانانية،،للجريمة ،للجنون ،ليقظة الضوارى النائمة فى أعماقنا..
الحب حمى تلتهم القوى والثروات والإعمار وتجعل من الامين لصا فاتكا ومن الوديع قاتلا..لماذا تريد أن نملك المال أيضا نكدسه ونقدسه،كما لو كان يسعه هو أيضا أن يمنحنا اى هناء صادق؟ ..أن هذا الإله الزائف الآخر يمتص كل نشاط اعمارنا القصيرة دون أن يجعل حياتنا أعمق فى الحقيقة ولا أغنى..والشهرة كذلك أكذوبة!حتى،، الحياة البسيطة ،، التى كان يرى من قبل أنها سر السعادة..صارت تبدو له الآن خدعة أخرى..كان يقول أن على الإنسان أن يعرف كيف يقنع بمسرات سهلة ساذجة ،فالحياة تغدو لطيفة ومحتملة لمن أوتى من الفهم ما يمكنه من تذوق الأفكار الرفيعة والآثار الفنية والمشاهد الطبيعية والصداقة والحب والموسيقي والف متعة أخرى ،،ولا شئ فى الدنيا أكثر امتاعا من تأمل ما فى العالم من صور وألوان فطوبى لمن عاش للازهار التى يحبها ولكاتبه الذى يحبه ويجد فى كتابته صدى نفسه،،وقد يكفى لهناء النفس أن يرى الإنسان فى طريقه حسناء مشرقة كالشمس أو يتحدث الى صديق ذكى النفس أو يجلس إلى طعام على جوع ،،او يشرب على ظمأ أو يأوى الى فراشه وهو مكدود مجهد .أما الآن فإن الاشياء كل الاشياء تتعبه وتثير قلقه العصبى..
وفى الشارع بعد انتهاء السهرة عاد كل ما فى حياته من خواء وضياع يلون له الوجود باليأس والكآبه..لماذا جلس أمامها كالصنم ولم يعرف كيف يكلمها ..لماذا احس أمامها وحدها دون النساء جمعيا هوان شأنه وأنه لا خطر ولا جمال ،ولا رجاء فى نظرة منها تهبط عليه من عليائها كاليد الرحيمة المنقذة!

شئ موجع أن لا يكون له مكان فى حياة هذه المرأة ولا ماضيها ولا فيما تعرف من دنياها وتحب وتألف! وحسد اصدقاءها واقاربها وتمنى كما يتمنى المراهق الصغير لو كان قد عرفها من قديم وكانت له معها ذكريات مشتركة تجمع بينهما ،واستشعر الغيرة من أولئك الذين يعرفونها ويعرفون ماضيها ،ما اسعد أولئك جميعا،
وفى تلك الغرفة الداخلية المظلمة من نفسه ،التى يعيش فيها كائنه الحقيقى المستوحد،لم يجد إلا ظلالا شاكية واوهاما ميتة..لن يكون له عندها حب ولا صداقة ولا ألفة ..وما تصنع مثلها بكبريائه وغروره..لا رجاء هنا ايضا ولا أمل ..أنها أن تكن عنده الوحيدة الفريدة ،الاولى والأخيرة ،فهو عندها بعيد ..هو دائما فى فى المنفى ,ضائعا فى هذه المدينة وفى هذه الحياة..
ورآها مرة ثانية فى المكان نفسه بعد يوم واحد ،،وكانت هى فى هذا اللقاء الثانى مرحة ومتأهبة للثرثرة ،فكلمته فى شىء من الحذر فى البداية ،وهى تحاول بنظراتها العميقة الهادئة أن تستشف أعماق عينى هذا الرجل القليل الكلام ..وخطر له وصوتها ينساب فى سمعه ويكاد ينومه أنه لو اطاع رغبته العنيفة فتناول هذه المخلوقة فى ذراعيه .فتمنى لو مات هو عند العناق ،،وارعدته هذه القسوة العاشقة التى كشف له عنها فى نفسه خاطر عابر،،ورأت هى أمامها فجأة يدا مرتجفة وعينين ملتهبه فسرت فى بدنها هى الأخرى رجفة اذهلتها..وعندما منحته نظرة لطيفة من صفاء عينيها لم تعد الحياة فارغة ولا تافهة ولا أنفاسها مضنية ..لم يعد نبض القلب حماقة سخيفة،،ولم يعد الوجود اضطرابا باطلا وعقيما...ودعها فى ذلك اليوم وقد صارت بينهما معرفة،بعد أن صارحته بالكثير عن ماضيها ..

وهكذا صارا يلتقيان كثيرا مع الآخرين من أقاربها أو وحدهما احيانا،ونفسه تغلى بعاطفته المكبوتة التى لم تكن دائما فى مستوى واحد ،فهو فى بعض حالاته يفكر فيها فيراها شعاعا روحيا شفافا يجدد قواه الروحية ورجاءه ونشاطه النفسي .
وصارت غيرته من طليقها بغضاء عمياء .ولم تكن هى تتحدث عن ذلك الرجل الذى عصف بشبابها ولم يكن هو يجد الجرأة على الاستفسار منها عنه،ذلك الملعون الذى ضمها وعانقها وشمها وكانت له كما تكون المرأة للرجل ..


وفزعت هى فزعا صادقا وموجعا عندما قال لها فجأة خلال مكالمتهم الهاتفية أنه يحبها ولا يعرف كيف يعيش من غيرها ..واستشعر أنها كانت واقفة فانهارت جالسه وسكتت واطرقت تستجمع نفسها قبل أن تتكلم ..لقد كان لها حلم آخر ..كانت تسعى إلى أن تكون صديقة له،دون أن يصل بهما الود إلى هذا النتيجة..لكن يبدو أن هذا غير ممكن ،وهو اذن فوق ما يطلب إلى الرجال!.
وتحدثت إليه وحاولت أن تجعله يفهمها ،فقالت له:
افهمنى كإنسان يفهم إنسانا ،لا كرجل يريد أن ينال امرأة ..
كنت فى صباى احلم بأن الحب شيء عظيم ونبيل ،فاذا بى أرى فى زواجى الذى استمر لمده ٦ سنوات أن  للرجولة معنى قذرا ووضيعا ،وأجد منها وحشية لا تعرف الرقة ولا تتكلفها،فاحتفظت من تلك التجربة بحقد مرير لم تمحه الايام من نفسى تماما وبكل مأساة الامتهان لكرامتى كأنثى..وتقبلت ببطولة صامتة كل نتائج زواجى ..قضيت احسن سنوات شبابى فى سجن رجل احمق..هذا يكفيني..لا اريد فى حياتى تجارب أخرى!.
فأجابها فى صراحة ضارعة وعاتبة:
انى لا أدعوك إلى تجربة إنما أدعوك أن تأخذى بيد رجل ضائع وتردى عليه إيمانه بجمال الحياة! وانا قبلك لم احب امرأة وكانت حبيبتي الوحيدة دائما هى نفسى!
وعندما أقول لك انى اريدك فأنى اقولها بكل انانيتي.انا اريدك !أنا احبك؛ أنا أعيش فيك أنا أموت بك ،،اريد نفسك وفكرك وجسمك وحياتك وكونك..أنا لم اهتز فى هذه الدنيا لشئ كما هزنى وجودك وايقظ نفسى الميته وأحيا خفق قلبى..خذى بيدى إلى شئ من الرجاء،او دعينى اموت! انى لا أسألك عن تجربة بل معجزة..
تدفقت أحاسيس أجيال النساء فى عهد حواء فى عروقها دما ساخنا ،ولعل أحسن ما فى الحب وأرق متعة اللحظات التى يحس فيها رجل وامرأة بجماع فكرهما أنهما يزدادان فى كل لحظة اندماجا وانسجاما،وأدركت رسالتها بغزيرة الحياة العظمى المودعة فى قلب كل امرأة ،،فأشرق وجهها وهى تدخل حياته كما تدخل الشمس غرفة أغلقت فى وجه النور دهرا طويلا ثم فتحت فجأة على الربيع ،ودخلت فى حضنه كالماسة المشعة ،واكتسى شحوب الحياة لونا زاهيا مشرقا وتجلى الغد بهيجا واعدا،وفاض الحب من قلبه على كل الحياة وكل الناس،،وصارت عروق أيديهما المشتبكة تنبض نبضا واحدا وسرت فيهما بنفس القوة موجة واحدة قاهرة من عشق أذلى مستكن فى اصلاب الكون وعروق الوجود ،،واندمجا فى قصة الكون الأبدية فى قبلة حب غنى من حولهما الليل والقمر!

هى قبلة .قبلة واحدة بلغ فيها عتبة المعجزة وتحرر من أسر نفسه الضيق وحملته نشوته خارج حدود ذاته،فالتحم بلحظة حياته الكبرى ونال الهناء الذى كان قبل أن يعرفها موضوع قلقه وعذابه،

أنه لم يعد جزيرة مستوحدة موحشة تعوى فيها زوابع اليأس والكآبه والخمول..ولا ضحية للحياة..أنه جاز عتبة المعجزة.