الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

المطران منيب يونان يكتب: رسالة الميلاد .." محبّة الله ظهرت في المسيح "

المطران الدكتور منيب
المطران الدكتور منيب يونان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

رسالة الميلاد .." محبّة الله ظهرت في المسيح "

"بهذا أُظْهِرَتْ محبَّةُ اللهِ فِيْنَا: أنَّ اللهَ قدْ أرسَلَ ابنَهُ الوحيدَ إلى العالمِ لكيْ نَحْيَا بِهِ"

(رسالة يوحنا الأولى 4 :9).

 

بقلم المطران الدكتور المطران منيب يونان

 

عيد الميلاد هو الاحتفال بمولد الطّفل يسوع في بيت لحم، ويتغنّى الكُتّاب والوُعَّاظ بأهميَّة عيد الميلاد،فهو عيد ميلاد السّلام الحقيقيّ. وبالفعل، إنَّ الرَّب يسوع المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب؛ ولذلك فهو أمير السّلام. ولد في مذود وضيع في اسطبل فلسطين. ولا عجب أن رنَّمت الملائكة فوق ربوع بيت لحم ترنيمة السَّلام الأبديَّة "المجدُ للهِ في الأعالي، وعلى الأرضِ السَّلام، وبالنَّاس المسرَّة"( إنجيل لوقا 2 :14).

 

ويعتبر الرَّسول يوحنا ميلاد المسيح احتفالًا بظهور محبّة الله الفائقة في هذا العالم. فيقول: "بهذا أُظْهِرَتْ محبَّةُ الله فينا" (رسالة يوحنا الأولى4 : 9). وميلاد المسيح العجائبيّ في بيت لحم ما هو إلَّا دلالة واضحة جليَّة بمحبّة الله للبشريَّة جمعاء، بتنوّعها وتعدّدها؛ لأنَّ طبيعة الله هي فقط محبَّة. لذلك يقول يوحنَّا الرَّسول: "الله محبَّة" (رسالة يوحنا الأولى 4 :8).

وعند هذا الإعلان، يحدّث الرّسول رعيته بهذا التّعليم الجديد لها، فاعتادت البشرية أن تخاف الله، ولذا يكتب كاتب رسالة العبرانيين"مُخيفٌ هُوَ الوُقُوْعُ في يدي اللهِ الحَيِّ". (رسالة العبرانيين 10 : 31). أو عندما يدعى الله قاضيًاأو حاكمًاأو ملكًاأو مشرعًا، فهذا يوحي بالخوف من الله سبحانه وتعالى.أمَّا يوحنا الرَّسول فيتحدى هذا الفكر بإعلانه أنَّ طبيعة الله الحقيقية هي محبَّة لا خوف؛ لأنَّ الله هو محبَّة. والميلاد هو برهان حيّ. على كلُّ هذه المحبَّة اللا محدودة واللامتناهية للبشريَّة جمعاء.

فالله تجسَّد بين البشر وبتجسّده في بيت لحم أتى ليخلّصنا من الخطيئة والقهر، ويعطي كلَّإنسانٍ حياةً كريمةً "لأنَّه هكذا أحبَّ اللهُ العَالَمَ حتَّى بذَلَ ابنَهُ الوَحِيْدَ، لكي لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِهِ، بلْ تكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأبديَّةُ".(إنجيل يوحنا 3 : 16).

كتب المصلح "جون كالفن" شارحًا محبَّة الله المتفانية بقوله: عندما نسأل، لماذا خلق الله العالم؟ ولما خلقنا لنتسلط على هذه الأرض، ولماذا يعطينا الحياة، لنتمتَّع ببركاتها، ولماذا يستمر الله بتنويرنا بالمعرفة والحكمة؟ فلا يوجد أيّ سبب سوى محبّة الله المجَّانيَّة العظيمة للبشريَّة التي خلقها. وعليه فإنَّ ميلاد المسيح هو البرهان الوحيد واللامع الذي يظهر محبَّة الله لنا. وكلما نظرنا إليه، يؤكّد لنا يسوع المسيح- مُخلّص البشريَّة على الصليب- أنّ الله محبَّة.

 

وعندما أتأمَّل في محبّة الله وعمقها وكيفية ظهور هذه المحبّة في طفل المذود يسوع المسيح أتساءل، كيف تنعكس هذه المحبة في عالمنا؟ وهل نفقه عمق هذه المحبّة الفائقة لنا؟ وهل نختبرها نحن المسيحين في كنائسنا، ونعكسها في مجتمعاتنا؟أو هل أصبح الميلاد مهرجانًا سنويًّا نضيء شجرة الميلاد؟ ونفرح بهدايا سانتا كلوز، وقد نسينا جوهر الميلاد ألا وهو محبَّة الله الفائقة المجَّانيَّة، وهل تعطى عائلاتنا أمير السَّلام، وملك المحبّة أن يولد في مذود قلوبنا، وبيتنا، وعائلاتنا، وكنائسنا ومجتمعنا؟

نعم، إنَّ الميلاد هو زمن فرح بهذه المحبَّة، وهو زمن تجمّع للعائلة، ولكنَّه وقت تأمّل كخطاة لنختبر قوَّة محبّة الله الظّاهرة في يسوع المسيح. وأنَّه وقت إجلال وتسبيح لعظمة هذه المحبَّة الفائقة. ولكنَّ الميلاد -هو أيضًا- وقت تجديد يجدّدُ فينا قوّة محبَّة الله التي تولد من جديد في داخلنا، وتعطينا معنى جديدًا مجدّدًا لهبة الحياة، وهبة الكرامة الإنسانيّة"بهذا أُظْهِرَتْ محبَّةُ اللهِ فِيْنَا: أنَّ اللهَ قدْ أرسَلَ ابنَهُ الوحيدَ إلى العالمِ لكيْ نَحْيَا بِهِ"( رسالة يوحنا الأولى 4 :9) .

 

عندما زار قداسة البابا فرنسيس الأوّل زيارته الرّاعويّة إلى قبرص واليونان في مطلع هذا الشهر، أثار قلقه معاملة اللاجئين فقال: "إنّأوروبا أنانيَّة في معاملتها للمهاجرين، وفي إغلاقها للحدود." وقد أزيد على قول قداسته بأنّ القوى العالميَّة وأصحاب القرار والنُّفوذ هم أنانيون ومسؤولون عن تشرّد هؤلاء اللاجئين من حضن بلادهم. والسبب في ذلك أنَّهم يضعون مصالحهم الوطنيّة الضَّعيفة فوق مصلحة العدالة.

لذلك يقول النّبيّ أشعياء "وقدِ ارتَدَّ الحَقُّ إلى الوَرَاءِ، والعَدْلُ يَقِفُ بَعِيْدًا؛ لأنَّ الصّدْقَ سَقَطَ في الشَّارِعِ، والاسْتِقَامَة لا تَسْتَطِيْعُ الدُّخُوْلَ، وصَارَ الصِّدْقُ مَعْدُوْمًا، والحَائِدُ عَنِ الشَّرِّ يُسْلَبُ. فَرَأى الرَّبُّ وساءَ في عَيْنَيْهِ أنَّهُ لَيْسَ عَدْلٌ"(سفر نبوة أشعياء59 : 14 + 15 )

ولا عجب أن نسمع اليوم عن حروب وعن تهديدات بحروب. ولا عجب ثمة مقاييس مزدوجة لقضايا العالم. فالطَّمع والأنانيَّة وحبّ السّيطرة تتغّلب على محبّة الميلاد. وينسى العالم ما قاله النّبي أشعياء أنّ الحقّ والعدالة هما ثمرة محبّة الله على هذه الارض. وقال الدكتور مارتن لوثر كينج: "الظُّلم في أيّ مكان في العالم هو تهديد للعدالة في كل مكان". لذلك فإنَّ رسالة الميلاد للقوى الحاكمة تتلخَّص في أنَّ عليهم أن يختبروا قوَّة محبة الله في هذا الميلاد، ليزرعوا الحقّ والعدالة والسَّلام في شعوبهم وبين شعوب العالم.

لقد اجتاحت قبل عامين جائحة الكورونا عالمنا، فذكَّرتنا بإنسانيتنا المشتركة، وبخوفنا وارتباكنا وهلعنا وابتدأنا نشعر بترابط الشُّعوب والأثنيات والقوميَّات أمام هذا التَّهديد الجائحيّ. وعندما اكتشف العلماء التطعيم، فكأنَّنا نسينا ترابطنا الإنسانيّ ورجعنا إلى أنانيَّتنا وحبّذواتنا. فالتَّقارير تخبرنا اليوم أن 60% من الدول الغنية قد طعَّمت رعاياها بينما 8% من الدول الفقيرة في الجنوب طعَّمت رعاياها، وذلك بسبب مبادرة الكوفاكس الخيرية، وهنا أقف متسائلًا: ألمْ تُعد محبّة الله الفائقة لنا إنسانيتنا في الميلاد، وأظهرت محبّة الله في ميلاد المسيح للبشرية جمعاء حتى تعلمنا لنحب جميع شعوب الأرض دون تمييز أو استثناء؟

كنت قبل أسبوعين مشاركًا في مؤتمر عن التّأثير العربيّ الفلسطينيّ المسيحيّفي وطن الميلاد وأرض القيامة. وشارك فيه أكاديميون ومحاضرون أكفاء، وقدّموا أوراقًا علميَّة غنيّة عن الوجود العربيّ الفلسطينيّ المسيحيّ منذ ألفي عام، وتأثيرهم على العلم والحضارة والثقافة والتطور ومواقفهم المشرفة لقضيتهم العادلة ولقضايا المجتمع،وبما أنّ العرب الفلسطينيين المسيحيين هم قلّة في العدد في هذا اليوم، ولكنهم لا يعتبرونأنفسهم أقليَّة في مجتمعهم الفلسطيني، وأن اختبارهم لمحبّة الله التي ظهرت في ميلاد المسيح كي تحفّزهم دائمًا ليعكسوا قوّة هذه المحبَّة في مجتمعهم ويخلصونإليه، ويعملونَ من أجل رُقيّه وحصوله على حقوقه المشروعة بمؤسساته المختلفة وباندماجهم في مجتمعهم. فالميلاد يحفزهم جميعًا ليكونوا خميرة في هذا المجتمع،ليخمروا المجتمع بتلك المحبة التي اختبروها في ميلاد المسيح.

 

لقد قال قداسة البابا فرنسيس الأول:"إنَّ اللامبالاة تقتل". وتأمَّلت جليًّا في هذه الكلمات الصّائبة، وراجعت نفسي في المؤتمرات التي أحضرها عبر "الزوم"،أو وجاهيًّا، أو عندما اقرأ التَّقارير والتّحاليل فأتساءل: لماذا ثمة لا مبالاة بالنسبة للقضية الفلسطينية في هذا الوقت؟ وهل انشغل العالم بمشاكل أخرى، وفي قضاياهم الدّاخلية؟ أو هل تعب العالم من انقسامنا ويريد أن يرى قوة وحدة هذا الشعب؟أو هل كثرت الانتقادات على الأداء؟أو أنّ الصّراع وصل الى مرحلة أضاع الاهتمام العالمي؟

نعم، إنَّها –أي اللامبالاة - تقتل. فإنّنا نرى اليوم أنّ العنف يستفحل ويستشري، وأن إجراءات الاحتلال تضيّقُ على شعبنا. ونسمع عن أصوات خجولة تدعو الى العدالة. وقد يسأل بعضهم: أين الخلاص الذي يأتي به الميلاد؟ صحيح أنّ عيد الميلاد بكلّ الفرح الذي يحمله لا يزيل الشّرّ الذي نعيش فيه أو يعيش فينا. ولكنّه ينبّهنا أن الله ليس بعيدًا عنّا، مهما كثر الشر ومهما كثرت شرور النّاس حولنا وظلمهم لنا.إنَّ محبّة الله ظهرت وسط اللامبالاة الانسانيَّة للقضايا العادلة. فالميلاد هو دعوة إلى الثّقة الكاملة بمحبة الله المتناهية؛ لأن هذه المحبّة التي نثق بها هي مفتاح خلاصنا وعنوان عدالتنا وحريتنا.

 

لقد ظهرت محبَّة الله في الميلاد على أرض الميلاد، وحتمًا ستظهر هذه المحبّة في بلادنا؛ لأنّ الله هو إله العدالة، لذلك تتحدّانا هذه المحبّة الفائقة، وتتحدّى كذلك جميع أصحاب النُّفوذ والقُوّة في هذا الميلاد بكلمات النّبي ميخا:"وماذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إلَّا أنْ تَصْنَعَ الحَقَّ وتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وتَسْلكَ مُتَوَاضِعًا مع إِلَهِكَ". (سفر نبوءة ميخا6 : 8).

وعلينا جميعًا في هذا الميلاد أن نصلّي بإخلاصٍ لتظهر محبّة الله فينا وتغيرناوتغيّر أحوالنا وتقوّينا حتّى نصمد في هذه المحبّة لنكون أداة محبة وعدالة وسلام.

 

وكلُّ عامٍ وأنتُم وعائلاتكم بألف خيرٍ