رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات البوابة.. "أخيرًا.. كفر الأبيض" نص لـ"محمد فتحي العناني"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ذَاتَ شُرُودٍ وَقَفَ على قافية التأمُّل، يَحْتَسِي كُوبَ رثاء مع أوفياء اللاأحد، وقد فَاحَتْ في روحه رائحةُ الإرهاصات التي تزوره في كُلِّ صَبَاحٍ للأَمْسِ. 
لقد كان أسدا أبيضَ إلى حَدٍّ بليغ. لم يَذُقْ طبعُه مخالطةَ الوحوش المنتشرة في نواحي الغابة، ولمّا يتعلمْ دُرُوسَ افتراس الأرواح؛ إذ لم يكن قد مات بعدُ..! وكان يذهب رائحا بقلب الطفل، ويجيء غاديا بوَفَاءِ الشتاء، ولِأَفْعَالِهِ موسيقى كموسيقى العصافير. 
آمن بالسراب منذ نشأته حتى صار من أقوى المؤمنين به. والحقُّ أنّ السِّرَّ في قوة إيمانه أنه يرى في نفسه تجليا من تجليات هذا السَّرَاب وانعكاسا لنمط من أنماطه. 
ظل واقفا بشاطئ السراب مُدَّةَ سقوط ثمرة النُّضْج من شجرها إثْر هَزَّاتِ الخِذْلانِ المتتالية. وكلما رَمَتْهُ أمواجُ السّراب برصاصها المُتَوارِي خَلْفَ عُذُوبَتِهِ المُغْرِيَة قَامَ من مَوْتِتِهِ، وأبى إلا أن يؤمن بالسراب مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة... وهلم جرا. 
وإِنْ تَعْجَبْ..فَعَجَبٌ صَمَمُهُ عن التفكير -ولو مَرّةً واحدة- في الكفر بالسراب، على شِدّة ما عَانَى سَكَرَاتٍ في كل مَوْتَةٍ يَمُوتُهَا! إنه من نَوْعٍ غريب وقليل حقا. إنه من النوع الذي إذا اعتدى عليه ذئبٌ، أو نبح في وجهه أو من خلفه كلبٌ، أو ضايقه ذُبابٌ.. قام يتوضأ بماء النِّسْيَانِ؛ لِيُصَلِّيَ صَلَاةَ المُسَامَحَة.
وبينما تَفُورُ الأحداثُ السَّالِفَة في نفسه إذا برائحةٍ ذَكِيّةٍ تُشْبِهُ قهوةَ التَّصَبُّر تَرْمِي الأَسَدَ من قِمّةِ الشُّرُود لِيَقَعَ أَرْضًا حيثُ الواقع. وها هو الآن، وقد مرت الأيام تدفعها الأيام، يقف بالشاطئ الذي لطالما ارتاده تاليا لتراتيل السراب المدهشة. ها هو الآن يقف بوجه غير الوجه القديم، وبقلب غير القلب القديم، وببياض لا يشبه بياضَه القديم، وذلك بعد سقوط أول ثمرة للنضج في رحلته. ها هو الآن من الكافرين بالسّراب بعد أن انزاحت عنه تعويذة الإيمان.
تنفس الصعداء، وكَنَسَ ما تَبَقَّى من إيمانٍ ثم وَضَعَهُ في سَلّة اللاعودة. وانتبه أخيرا لأمر الدِّيَكَة التي نفخت ريشَها في عَرِينِه.ثم انتفضتْ أنيابُه، تَطْرُدُ النُّعَاسَ عنها، فرَقَصَتْ أوراقُ الغابة على نشيد الرياح وهي تغني:
إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ الليْثِ بَارِزَةً
فلا تَظُنّنَّ أنَّ الليثَ يَبْتَسِمُ.