الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

المطران يوسف توما: الحَجر من كورونا يشع الروح فينا

المطران يوسف توما
المطران يوسف توما
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قال المطران يوسف توما رئيس اساقفة كركوك والسليمانية بمناسبة عيد حلول الروح القدس 2020: حَجر كورونا وشعاع الروح فينا: لم يعرف العالم حالة مشابهة من الحبس والحجر الالزامي مثلما عرفه في هذه الأشهر الثلاثة الماضية. وتردّدت أنباء عن حالات عديدة ومشكلات في البيوت، ما عنى بالتالي أن العيش معًا ليس بالأمر السهل، هذه الحالة تدعو إلى التفكير وعودة تقييم الأمور العادية بطرق ذكية وبارعة.
لكن، ما هي الأشياء التي يمكن وعلينا القيام بها بمزيد من الذكاء؟..كل شيء وأي شيء يستحق التفكير! لا ننسى أننا جئنا إلى العالم جاهلين تمامًا وكان علينا أن نتعلم استخدام أمور كثيرة من الصفر. بدأنا بتعلم الوقوف على قدمينا، ثم خطونا أولى الخطوات نحو المساحات الفارغة المتاحة لنا. بعضنا كان موهوبا، ومنّا من تأخر في الكلام أو المشي، المهم كانت لدينا مواقف وطرق في الوجود، سقطنا وقمنا وتقلبنا بين التردّد والاقتحام؛ ثم جاءت الشجاعة لنتمكن من السيطرة على إيقاع غير مرئي هو الذي يحرك هذا الكون الحي. وتعلمنا أننا سنبقى متدرّبين دوما، هواة دائمين. وسيبقى أمامنا كل يوم مجال لتحسين نهجنا في الحياة، بمزيد من الوضوح والثقة.
زمن الحجر الإلزامي كان فرصة ثمينة.
قبل كل شيء، لنراجع علاقتنا بالأشياء من حولنا، ففي الأزمنة القديمة كانت الإنسانية أكثر تواضعا وأكثر صبرًا، كانت تقيّم الأشياء التي في خدمتها، تعرف قدرَها وتشعر بالامتنان تجاهها. كان لديها معها رابط من التعاطف، بل حتى تواطؤ بين البشر والأشياء. كنّا نحتفظ بالحاجات أطول فترة ممكنة أطلقوا على بعضها اسم "الأجهزة المعمّرة" (ثلاجة ديرنا عملت بلا توقف 50 عامًا)، كانت مدللة حتى عندما تصبح مهترئة. وقاموا بتصليح كل شيء: الملابس حتى الجوارب وهو "الرفو" (في بغداد شارع الروّاف). بل أصلحوا الخزف، كان يخيطه في الموصل "خياط فغيّغ" (فرفوري)، يعتنون بالأثاث الموروثة من الأجداد. وبهذا التعامل كل شيء يأخذ طابعا شخصيا، ويتّشح بالدفء الحميم.
لكن منذ جيل أو جيلين، شهدنا غزو الاستهلاك. ونتيجة لهذا لم تعد العلاقة نفسها مع الأشياء. نتعامل معها بتعالٍ، ليس لنا معها أي ارتباط أو عاطفة. نهملها بلا مبالاة. ثم يأتي وقت تبدو بلا نفع، فندفعها باحتقار إلى القمامة. نتخلص منها لمصير بائس! لا أحد يتحسّر على القديم المستهلك. هذه التصرفات لم تسهم في تثقيفنا عن معنى الأشياء واحترامها، ولا بضرورة الحرص على قيمتها. وغالبًا ما يحدث ذلك بلا وعي منّا، في ساعات الخمول عندما نشعر بالانزعاج من وجود الأشياء بالذات، لأنها تعكس صورة المحنة العميقة التي نمرّ فيها!
وأضاف في بيانه الرسمي الذي نشر الآن عبر صفحته الرسمية لكن الحجر الصحي الذي فرضه فايروس كورونا هو فرصة لإعادة معرفة قيمة الأشياء التي حولنا، فهي ولو نسينا لديها روح، كقطعة شريط لَفوا به الهدايا التي أعطونا، بل حتى الدبّوس إكتسب روحًا، لأنه شاهد على ما عشنا. إنها ذكريات ثمينة كنّا دفعناها في خانة النسيان. هذا الوعي يمكن أن يدعم معنوياتنا إذا وافقنا على الحوار الجدّي مع الأشياء الموجودة هنا وهي تذكّرنا بأن كل شيء في هذه الحياة ليس بالضرورة ضائعًا تمامًا بل هو دعوة إلى إعادة النظر بمعنى الأمانة والإخلاص.
بعد العلاقة بالأشياء المادية، نصل إلى الأكثر تعقيدًا: العلاقة مع الأشخاص!
لقد أجبرنا الحجر الصحي أن نعيش بصحبة من نحبّهم ليلًا ونهارًا، لا ننفصل عنهم لثانية. وبدل أن يفرح بعضهم بذلك، دخل حالة من الذعر، فحتى زمن ما قبل الحجر لم يكن يتصوّر أن يحيا مثل ذلك؛ كان للكل وظيفة، وإمكانية هرب، ثم اكتشفَ أن المواجهة الدائمة مع الآخر تسبّب الصداع، والاختلاط الزائد قد يقضي على الحميمية. فصار يحاول وضع مسافة معيّنة. لكن المفارقة، وبالتحديد هنا، من ضمن متطلبات الحجر طلبَ منا الحفاظ على "مسافة اجتماعية"، بل عدم لمس بعضنا البعض. هذا الوضع المتناقض دفعنا لإلقاء نظرة تأمّل فاحصة: مجتمعاتنا الشرقية خصوصا، تعبّر عن مشاعر المودّة من خلال مجاملات وكلمات واضحة للغاية، تتدفّق العواطف لدينا بلا حواجز. نحبّ ونقبّل ونَسبَح على الدوام وبلا انقطاع في مجموعة من الانفعالات. لعلها بالتأكيد أمورًا إيجابية، لكنها تصير مملة عندما تدور في حلقة مفرغة: عمّك، خالك...، ما عدا عندما تعترض عواطفنا عقبة ما، أو انزعاج بسيط، عندئذ تصبح الكلمات والانفعالات التلقائية مقلوبة، مزعجة، بل تتحوّل إلى هجوم واقتحام. ولأدنى شرارة تنطلق لتصبح مشاحنة وجدلا وعتابا لا ينتهي، وأحيانا عنفًا مؤسفًا بين الأحباب والأصدقاء.
في شرقنا حكمة قديمة متراكمة وأمثال تناولت موضوع العلاقات الإنسانية، تناقلتها الأجيال عبر "طقوس الاحترام المتبادَل"، طقوس قامت على مبدأ وضع مسافة معيّنة وحبس للعاطفة الجيّاشة. فوِفقا للحكمة كان المبدأ أن نتعلق بالآخر لكن بلا مبالغة أو إسفاف. وعلى هذا الأساس كان الزواج يركز على شكل آخر من الحب الخجول بحيث يتعامل كل منهما مع الآخر كأنه ضيف شرف. الكثير من العائلات الحالية، تعاني من مشاحنات قد تصل حدّ الافتراق أو الطلاق، وهنا أتخيل الجيل السابق يتندّر على الحالي الخائف السطحي الذي يغرق في "فنجان" من المشكلات!
بعد العلاقة مع الأشياء والأشخاص، أصلُ أخيرًا إلى العلاقة مع الذات
في زمن الحجر الفايروسي، ساد شعور بالخوف لدى البعض أن يبقى وحيدًا مع نفسه. لا شك، هذا يذكرني بمقولة الفيلسوف بليز باسكال (1623 - 1662): "كل مصائب الناس تأتي من عدم معرفتهم كيفية البقاء مرتاحين في غرفة". لأنهم يدمنون الترفيه والهرب من الذات لئلا يواجهون مصيرهم. ترعبهم الجدران الأربعة حيث لا شيء سوى الملل القاتل! مع ذلك، تلك الغرفة، غرفة نومك، هي للأحلام، تحوي غنى وثراء أكثر مما تتصوّر. هناك ذكريات الماضي المثقَل بالعواصف والندم، لكن فيها لحظات النعيم أيضا، هناك الحاضر جاهز للتأمّل والتحوّل، وإمكانية اكتشاف، اليوم أبطالا من صنف جديد في كلّ من يعمل في الرعاية الصحية من أطباء ومساعديهم؛ هؤلاء يمكن تشجيعَهم من خلال رسائل قصيرة SMS، والمشاركة معهم في الحدث؛ وتعقّب مسارات مستقبل يجري بناؤه وإعداده الآن على أيديهم، إنه المستقبل المفتوح الذي لن يكون كما كنا نتصوّره قبلا.
أخيرا، عند هذه النقطة، استحضر حدثا من حياة جاكوب بوم (Böhme) 1575 – 1624م، المتصوّف الاسكافي، كان في دكانه المظلم، يجلس وحيدا في فترة ما بعد الظهر، رأى شعاع الشمس يدخل من النافذة وينعكس في إناء من صفيح. شيء عادي تافه لكنّه اتخذ انعكاسا لألوان قوس قزح. وفجأة تأثر جاكوب بحيث غمرته الدموع، وامتلأ قلبه بالشكر، فسقط على ركبتيه ساجدًا. الإنسان العادي المادي يشرح ذلك الشعاع علميًا بقانون الفيزياء، لكن "جاكوب بوم" رأى شيئًا آخر: رأى أنّه في حضن الأبدية، في تلك الزاوية الضائعة من الكون الهائل الذي يبدو كالأخرس وغير مبال، شعاعٌ أحدث لحظة معجزة، جاء يغمر بالألوان إنسانا مجهولا على هذه الأرض، نُطفة غبار بين الغبار، استطاع أن يلتقط المشهد، بعينين مفتوحتين وقلب نابض، فغمره الامتنان. من يستطيع تفسير هذا اللغز؟ قد لا يكون هناك ما يمكن شرحه. هنا فقط حياة تتفاعل، لكنها هي الأعجوبة بحدّ ذاتها، يتم استقبالها كهديّة هائلة لا تصدَق. لذا يمكن لكل إنسان جالس لوحده في غرفة، بطريقة فريدة، أن يستعدّ للترحيب ولو بشعاع الله الموهوب له، مثل تلك الفتاة العذراء مريم، التي استقبلته مثل ضيف شرف من فوق، واستقبلته مع الرسل يوم العنصرة.