الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"زديج".. مأساة القدرية في الثقافة الشرقية كما سطرها فولتير

زديج
زديج
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الفضول والبحث الحضاري.. هو ما دفع الأديب الفرنسي العالمي فولتير (1694: 1778) إلى كتابة قصته ذات الشخصيات الشرقية – زديج -، لكونه فيلسوفا مُحبا للحكمة، والإنسان؛ يبحث عنه في الحضارات المختلفة عبر التاريخ. 
تدور الفكرة الرئيسة للعمل؛ حول قضية القضاء والقدر في حياتنا، وهي فكرة لاشك حيرت الكثيرين في كل الثقافات، إلا أن نظرة الشرق لها كانت واسعة ومحل إهتمام كبير، فلقد شغلت هذه القضية بال الشعراء، وكذلك أصحاب مدارس علم الكلام كالمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم وتسببت في هلاك الكثيرين ممن يؤمنون بأفكارهم تجاهها. 
وقدم عميد الأدب العربي طه حسين لقصة زديج بوصفه المترجم لها فقال:" هذه قصة من قصص فولتير التي عُنِيَ فيها ببعض المشكلات الفلسفية العُليا؛ التي شغلت الناس دائمًا، وشغلت الفرنسيين بنوع خاص أثناء القرن الثامن عشر، وهي مسألة القضاء والقدر، ومكان الإنسان وإرادته منهما". حيث كان القرن الثامن عشر قرن الحروب في فرنسا التي لم تكن بعد دولة قومية مُوحدة، كما كان قرن المعارك الفكرية والفلسفية التي خاضها رجال عصر التنوير الكبير، إذ كانت تهدف إلى تهديم النظام القديم وإحلال نظام جديد محله، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى صراع فكري، تجلى على نحو خاص في فلسفة فولتير الداعية إلى المساواة والحرية.وقد تمخض عن هذا الصراع، الثورة الفرنسية التي إجتاحت أوروبا كلها بفكرها وقيمها الإنسانية.
ويُمثل بطل القصة، زديج هذا الفتى البابلي الذي رأى نفسه أشقى الناس جميعا كما ورد على لسانه في القصة:" إني لأشقى النَّاس جميعًا". ورغم نظرته الحزينة البائسة هذه، فقد كان مثقفا؛ ثقف نفسه بنفسه، من خلال النظر في الطبيعة الحية بكل مخلوقاتها، كما آمن بالوحدانية من خلال إعتناقة الديانة الزرداشتية. ويُلاحظ على شخصية زديج الدينية أنه لم يكن هذا الفتى الذي يعتد بنفسه، رغم أن هذه الصفحة كانت تثير الآخرين ضده، ومن ذلك الحسود الذي نجح في إدخاله السجن بسبب الغيرة، وكذلك رجال الدين الذين فقدوا حظوتهم لدى الملوك بسبب تقريبهم زديج من كرسي عرشهم. وقد تجلت فلسفة زديج كلها في صفة التواضع وقد جاء في الرواية:" إن الإعتداد بالنفس كرة نفختها الريح". 
وتدور الأحداث مكانيا في بابل حيث حكم ملك يسمى 'مؤبدار، وكانت له زوجة محبة للحكمة وسماع الحكايات، تدعى "أستارتيه"، أحبت زديج وبادلها هو نفس الشعور العذري، ورغم خفاء هذا الشعور إلا أن الوشاة قد نجحوا في كشف حقيقة ما يستعر في القلوب بين الملكة وزديج. فتحول الملك ضد زوجته وغريمه، فيهرب زديج إلى مصر تثقله هذه الخواطر المهلكة فيقول شاكيا سوء الحظ:"ما حياة الناس إذن؟ أيتها الفضيلة بماذا نفعتني؟ لقد خانتني امرأتان، وهذه الثالثة لم تقترف إثما وقد قضى عليها الموت، كل ما فيَ من خير شقاء لي، ولم أرتفع إلى أعلى المراتب إلا لأهوى إلى الدرك الأسفل من الشقاء، ولو قد كنت شريرا ككثير من الناس لظفرت بما يظفرون به من السعادة".
ويقع زديج في الأسر لدى شخص عربي يدعى – سيتوك -، لكنه يحبه ويُقربه إليه بعد أن يكتشف من أول وهلة أن عبده الذي إشتراه من مصر حكيم. وفي كل مرة يظهر زديج وسط الجموع يلفت الإنتباه بقدرته على حل الألغاز، وتحقيق العدالة بين المتخاصمين بحلول بسيطة، ومن الوسط المحيط - الطبيعة الحاضرة-، كما حدث عندما برهن على مديونية اليهودي لشخص دون وجود شهود أحياء.
ورغم المصير المحتوم للملكة العاشقة ألا وهو الموت المحقق، إلا أنها لا تموت بينما يموت الملك نفسه بسبب الحرب مع ملك آخر. لكنها تقع أسيرة للملك المنتصر، ويشاء القدر أن يقابلها زديج صدفة وهو في طريقه، ليحررها ويعيدها لمملكتها من جديد. لكن العادات تمنع زواجهما معا إلا بعد أن ينتصر المرشح لحكم البلاد على خصومه في المبارزة، وكذلك في المحاججة. وبالفعل ينتصر زديج على كل خصومه، لكن الخصم الأخير ينسب الفوز لشخصة بالحيلة. فيزداد حنق زديج على القدر الذي يعانده ويأخذ منه جملة إنتصاراته في لحظة النشوة، فيهيم على وجهه ليتقابل في طريقه مع ناسك كهل يبدأ بتعليمه ما خفي عنه من أمور القدر وحكمته، وذلك من خلال أفعال غريبة يقوم بها الناسك؛ ومن ذلك إقدامه على حرق منزل شخص أحسن إستقبالهما، فيقول بعد فعلته هذه: "الحمد لله، هذه دار مضيفي قد دمرت تدميرا ما أسعد هذا الرجل". فإنتهره زديج عن فعلته هذه إلا أنه يرضخ له في النهاية. وبعد أن يضيق زديخ ذرعا بأفعال الشيخ العجائبية التي تدل كل الشواهد على أنه أفعال ليس فيها خيرا البته، فيكشف الناسك عن شخصيته وما هو إلا ملاكا ينفذ أوامر العناية والمشيئة الإلهية فيفهم زديج، من شرح الملاك أن المستقبل لا يعلمه أحدا إلا الله، وما يحسبه الإنسان شرا، ما هو إلا خيرا له لكنه لا يعلم هذا في التو واللحظة. تنتهي قصة بعودة زديج إلى مملكته، ومن ثم يبين للكهنة أنه الفائز الحقيقي، وتنتهي الأحداث بنهاية سعيدة تتويج زديج بالتاج الملكى وزواجه من حبيبته الملكة أستارتيه. ويبدو أن النهاية السعيدة هنا إرتبطت في ذهن فولتير كباحث في الثقافة الشرقية بقصة ألف ليلة وليلة، التي تحتوي على نهايات ينتصر الخير فيها على الشر.