الخميس 09 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

رفعت السعيد "٤" في حضرة التجديد الديني

رفعت السعيد
رفعت السعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حمل المفكر الدكتور رفعت السعيد، على عاتقه محاربة التأسلم وجماعة الإخوان الإرهابية، مستعينا بدراسته للتاريخ، فقدم للمكتبة العربية العديد من الكتب، ودخل إلى عش الدبابير فى قضايا كثيرة، ورصد بعقلية المؤرخ فكر الإخوان منبها إلى أن الجماعة منذ نشأتها وضعت هدف الوصول إلى سدة الحكم، مستخدمين شعارات إسلامية، وتأويلات للنصوص سواء القرآن أو السنة، وأيضًا فتح الراحل الكبير أبوابًا عديدة للاستنارة وتنبيه العقل العربى لنخبة من المفكرين فى تاريخ أمتنا العربية، ونشرت «البوابة» عام 2015 وما تبعها عدة مقالات ودراسات للمفكر الكبير.. نعيد نشرها لتكون أمام القارئ فى هذا الشهر الكريم.


نصر حامد أبوزيد.. تصدى بجسارة للتخلف الفكرى
الإسلاميون جماعة سياسية تمارس فاعليتها تحت يافطة الإسلام.. وفى مواجهة الجماعات الأخرى يتمترسون خلف «الدين» .. هجوم «عمارة» على زكى محمود يخرج الدين بالكلام من منطقة التعقل إلى منطقة الوجدان 
والآن نلتقى مع نصر حامد أبوزيد، ذلك الإنسان الذى كان يقطر وداعة وطيبة قلب ومعهما قدرة على الاحتمال وتصميم على التجديد، ومعنا كتاب لم يتداول كثيرا فى مصر، لأنه طبع فى الدار البيضاء وهو «الخطاب والتأويل»، وأستأذن القارئ فى أننى سأبدأ بآخر صفحات الكتاب لأنها تضم حوارًا ممتعًا مع د. نصر حول نشأته، ويبدأ نصر مقدما نفسه، ولدت بقرية «قحافة» بجوار طنطا، لأبوين فقيرين، ولا أجد أفضل من تلك الأسطر الشعرية التى وردت على لسان «الحسن بن منصور الحلاج»، الذى قتل صلبا عام ٩٢٥ ميلادية، والتى وردت فى مسرحية الشاعر صلاح عبدالصبور «مأساة الحلاج»..
أنا رجل من غمار الموالى فقير الأرومة والمنبت
فـَـلا حَسَبى ينتمِى للسَّمَاءِ ولا رفعتـْـنى لهَا ثروتِى
وُلِدتُّ كآلافِ مَنْ يُولدُونَ بآلافِ أيامِ هذا الوجودِ
لأن فقيرًا بذاتِ مساءٍ سَعَى نحو حـضنِ فقيرةْ
وأطفأَ فيهِ مَرارةَ أيامِهِ القاسيةْ!
الأب فلاح فقير أضناه الكدح فى الأرض فقيرة المحصول، باع الأرض وكانت مساحة صغيرة جدا وفتح محل بقالة صغيرًا. تعلمت فى الكتاب، أتممت حفظ القرآن فى الثامنة، حصلت على الإعدادية عام ١٩٥٧ وبعدها بأشهر توفى والدى، وأرغمت على اختصار طريقى فى التعليم. وحصلت على دبلوم المدارس الصناعية قسم لاسلكى ١٩٦٠ وعملت بهيئة المواصلات اللاسلكية. 
ولكنى صممت على مواصلة تعليمى (منازل)، وبعد الثانوية التحقت بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وتخرجت بتقدير ممتاز، وعينت معيدا وبدأت رحلتى الأكاديمية». ومثل الكثيرين انضم وهو فتى صغير إلى الإخوان وتركهم. ثم يقرر «لكنى لم أكن فى يوم من الأيام عضوا نشطا فى أى حزب، وإن كنت وجدتنى دائما أقرب من الوجهة السياسية والفكرية إلى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، معجبا بصيغته الليبرالية ونزوعه الاشتراكى والقومى ومقاومته للتبعية بكل أشكالها، لكن لم أكن عضوا عاملا به، وإن شاركت فى كثير من ندواته وأنشطته الثقافية ولا أزال أحرص على هذه المشاركة».
ثم نعود إلى الصفحات الأولى من الكتاب فنقرأ «إذا تصارعت الأفكار صحيا لا بد للجديد أن يزحزح القديم ويغيره ويتجاوزه، أما تجار القديم الذى أحاطته القداسة بالترديد والتكرار، بينما الجديد لا يزعم لنفسه أى قداسة فإن الأمر يفضى دائما إلى تمكين القديم وإزاحة الجديد، بل وقتله قتلا نهائيا، ناهيك باغتيال المفكر المجدد، والذى يسهل عملية الاغتيال هذه أن أنصار القديم ينقلون الصراع دائما من أرضه الحقيقية أرض الفكر والصراع الفكرى إلى أرض العقيدة وميدان الدين، وساعتها يصبح من السهل على أنصار القديم ممارسة ديماجوجية وعظية إنشائية تؤلب العوام وتجعلهم طرفا فى الخصومة، وكذلك تأليب مؤسسات اجتماعية وتعليمية وتربوية وبقية المؤسسات الدينية متهمين التجديديين بالإلحاد والشيوعية والعلمانية.
وهكذا يصبح الجديد دوما فى حالة دفاع عن النفس ويكون مطلوبا منه دائما أن يؤكد أن أفكاره لا تمس الدين ولا تطال العقائد الدينية، وهكذا يدخل الجديد فى موقف دفاعى سجالى فينخرط المفكر المجدد فى خطاب ركيك سقيم ينطوى على تراجع واستسلام. 
ونمضى مع د. نصر فى حديثه عن زكى نجيب محمود، الذى قال عنه إنه رمز التنوير، ونقرأ «كان الخطاب التنويرى عند زكى نجيب محمود فى مستهل حياته مجرد صدى للفكر الأوروبى الذى أمكن تلخيصه فى بُعدين: الإيمان بقيمة الحرية وفهم الحياة الاجتماعية والطبيعية على أساس أن التطور جوهرها».
ثم يعلق نصر قائلا: «كانت الحرية مطلبا أساسيا فى الحياة المصرية، أما فكرة التطور فلم يعرف منها معظم المثقفين إلا الصورة البيولوجية التى تنسب إلى داروين»، ثم «واستمر الخطاب التنويرى يكتسب أرضا جديدة ويعمق جذوره فى التربة الثقافية المصرية على يد أحمد لطفى السيد الذى نادى بوجوب الحرية المسئولة، وطه حسين بما عمل على إشاعته فى النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ»، ثم يقول «إن خطاب التنوير المصرى وجد نفسه فى تضاد مع بعض أطروحات الفكر الغربى عن الإسلام والمسلمين ليس هذا فحسب، فقد تناقض وتمت محاصرته بالدرجة الأولى بنقيضه السلفى الذى يرى أن الفكر الغربى «يسعى للقضاء علينا وانتهاك أصالتنا».. وهنا يرفع نصر حامد أبوزيد راية التنوير فوق وقبل راية التنوير. 
ويمضى د. نصر ليطالع معنا كتاب زكى نجيب محمود «المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكري»، وتقوم فكرة الكتاب على دراسة بنية «التأويل» فى كتاب الغزالى «مشكاة الأنوار»، فينقسم تاريخ التراث إلى أربع مراحل كما يقسم الغزالى دلالة النور إلى أربعة مستويات تنتقل من العام إلى الخاص، ومن الحسى إلى العقلى ومن العقلى إلى الخيالى ومن الخيالى إلى الروحي، ويرى أن تاريخ التراث ينقسم إلى مراحل «المرحلة الإدراكية»، وهى مرحلة الصراع السياسى حول الخلافة، والمرحلة الثانية هى مرحلة انبثاق الجماعات الفكرية كالمعتزلة والمرجئة، والثالثة هى وهج الترجمة والفلسفة والرابعة هى مرحلة.. النهوض الشامل.
ثم هو يلوم زكى نجيب محمود لأنه لم يضف شيئا جديدا للتقسيم المعروف والمتداول، وينتقل نصر بنا إلى كتاب آخر لزكى نجيب محمود هو «تجديد الفكر العربي»، لينتهى إلى أن التراث لا يحل مشكلة واحدة من مشكلاتنا التى يحصرها فى ثلاث مشكلات هى:
١- الحرية بأبعادها السياسية والاجتماعية وحرية المرأة.
٢- مشكلة الدخول فى عصرى العلم والصناعة وهى مشكلة يحيلها زكى نجيب محمود إلى طبيعة الثقافة العربية التى هى ثقافة لغة فى الأساس.
٣- مشكلة الوحدة العربية والقومية العربية. ثم يمضى د. نصر ليقلل من شأن هذا التحليل ويقول «هذه النتيجة الفاجعة لمسألة التراث لم يتوقف زكى نجيب محمود أمامها طويلا، ولم يتأملها تأملا كافيا، لأن العودة للتراث كانت بمثابة العودة إلى الملاذ، إنها عودة عاطفية فرضها موقف الهزيمة الشامل، ولأنها موقف عاطفى فهى فى منطقة خارج التأمل والاستبصار، إنها القناع الذى يخفى الذل والمهانة»، ثم هو يكمل وبشكل حاد «لذا فقد تحول مشروع النهضة إلى أزمة مثقف» (ص ٨٢).
لكن د. نصر لا يلبث أن يجد عدوًا أشد قسوة هو د. محمد عمارة الذى هاجم بدوره زكى نجيب محمود متهما إياه بأنه «يخرج الدين بالكلام من منطقة التعقل التى تقبل الصواب والخطأ إلى منطقة الوجدان الخاصة بكل شخص على حدة، بما يميل إليه قلبه وترتاح إليه نفسه، دون أن يكون هناك مجال لأن نعتقد بأن هناك من هو صواب على عقيدته ومن هو على خطأ». 
ويرد نصر أبوزيد بقسوة على محمد عمارة قائلا: «إن هذه المحاكمة تمثل سلوكا مرفوضا فالعقيدة محلها القلب»، ثم يقول «إننا هنا فى مجال تحليل ظاهرة إصرار البعض على اعتبار أنفسهم المتحدثين الوحيدين باسم الإسلام، وعلى اعتبار أن من يختلف مع أطروحاتهم وآرائهم خارج عن الملة ومشكوك فى عقيدته، خاصة أن عمارة قال فى مفتتح مقالته «عندما نتحدث عن د. زكى نجيب محمود فإننا باعتبارنا إسلاميين ننظر إليه من حيث مواقفه الفكرية من الإسلام التى تتحدد على أساسها أهمية فكره وخطره». ويتعجب نصر من أن عمارة يتحدث بصيغة الجمع وهى صيغة تعلق مسئولية الإسلام فى رقبة «جماعة» بعينها تستأثر وحدها بصفة الإسلاميين، وهذه الصفة تجعل من فهم الإسلام وتفسيره حقا مقصورا على أعضاء تلك الجماعة، «بحيث يعد أى فهم أو تفسير صادر عمن هو خارج الجماعة تحريفا أو إلحادا وكفرا والعياذ بالله». 
ويمضى د. نصر قائلا «من الضرورى تبيان أن لفظ الإسلاميين المتداول يشير إلى جماعة سياسية تمارس فاعليتها تحت يافطة الإسلام.. وهم فى مواجهة الجماعات السياسية الأخرى يتمترسون جميعا خلف «الإسلام» ويستخدمونه جدارًا حاميا وأداة أساسية فى الحشد السياسي».
ثم يصل د. نصر إلى مبتغاه فيقول «هذا الخلط بين السياسى والفكرى (الفكر الدينى بصفة خاصة) يحول السياسة إلى دين ويجعل من الأحكام السياسية أحكاما دينية، وهذا يفضى فى نهاية الأمر إلى أحكام بالكفر والردة»، ثم «إن البعض منهم حاول أن يربط بين ما يعتبره ردة خيانة وطنية. وبهذا يخلطون بين الأمرين: حرية الإنسان فى اختيار دينه وهى الحرية التى أقرها الإسلام فى نصوصه الأساسية وبين الخيانة الوطنية، لكن الأخطر فى هذا الخداع والتلاعب بالتسوية بين «الردة» و«الخيانة الوطنية» أنه يعنى الإقرار الضمنى بجعل الدين وطنا، فى حين أن الدين إذا تحول إلى وطن يصبح من حق الأقليات الدينية الاستقلال داخل أوطانها الخاصة، وهو ما يؤدى إلى تمزيق الوطن ذاته» (ص ٨٥).
ويمضى د. نصر فى مطاردة محمد عمارة فيقول «إن عمارة شديد الحساسية لكلمة «عقلي» شأنه شأن معظم أقرانه، فهو يعيب على زكى نجيب محمود التعامل مع التراث كتراث عقلي. وكأنه يمكن التعامل مع التراث بوسيلة أخري. فالتراث نتاج عقلى أنتجته عقول بشرية، وليس وحيا من عند الله، ومن الطبيعى أن يتعامل معه الباحث بوصفه نتاجًا عقلًيا، وليس من الضرورى أن يكون هذا التراث متماثلا مع أساسه الديني، فاختلاف الفرق والجماعات عبر عن نفسه عن طريق التأويل بما يعنى اختلاف التصورات حول العقيدة» (ص ٨٧).
ويواصل نصر حامد أبوزيد هجومه على منهج محمد عمارة، ومسلكه الباحث دومًا عن الرائج والمربح والمفيد. فيقول «ففى بداية السبعينيات كان خطاب محمد عمارة ينطلق من أهم المرتكزات العقلانية المستفيدة من التراث العربى الإسلامى، ومن أهمها إنجازات المعتزلة؛ لذلك كان حريصا على نشر تراث التنوير العربى الحديث، والمصرى منه بصفة خاصة، وفى عام ١٩٧١ نشر كتاب الشيخ على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» فى مجلة «الطليعة»، ثم أعاد نشره مع دراسة وافية للظروف والملابسات التى أحاطت بنشره فى عام ١٩٧٢ فى لبنان «وفى هذه الظروف احتفى عمارة بالكتاب وصاحبه احتفاء ملحوظا، وقال عنه إنه «امتداد متطور للشيخ محمد عبده فى الإصلاح الديني، بل إن آراءه فى موضوع الخلافة كانت فى عدد من نقاطها الجوهرية تفصيلا وبلورة وتطويرا لآراء الأستاذ الإمام»، وأكد عمارة فى طبعة بيروت أن الاهتمام بالكتاب وإعادة نشره هو بلا شك واقع تنويرى هدفه أن نصل الحاضر الذى نعيشه والمستقبل المأمول بأكثر هذه الصفات إشراقا وأعظمها غني، ونتعلم الشيء الكثير من شجاعة هؤلاء الذين اجتهدوا وقالوا ما يعتقدون- صوابا كان هذا الذى قالوه أو خطأ- دونما رهبة من الذات المصونة التى تربعت على العرش فى بلادنا قبل يوليو ١٩٥٢».
ويمضى عمارة مؤكدا «أن هذا الكتاب كان شديد الفعالية وأدى دوره كاملا، كما كان صاحبه حاد البصيرة فى رؤية اتجاه حركة التطور والتاريخ. تلك الحركة التى جاءت مصداقا لما أراد، رغم ما وجه إليه ووجه به من عقوبات واتهامات» (ص ٩١).
وتتغير المواقف مع تغير المصالح ويقول د.نصر «إن عمارة بداية السبعينيات وما قبلها أصاب موقفه تغير ملحوظ، فانقلب من الحماس للعقلانية والاستنارة والاشتراكية إلى الحماس لتيار الإسلام السياسى حتى صار فى أواخر الثمانينيات وما بعدها من أعلى الأصوات دعوة لقيام الدولة الإسلامية، ومن أشدها مهاجمة لخطاب التنوير والعلمانية. وفى سبع مقالات نشرتها جريدة «الشعب» لسان حال حزب العمل الإسلامى (١١-١-١٩٩٤، ١-٢-١٩٩٤) شن عمارة حملة لتلويث كتاب «الإسلام وأصول الحكم» بطريقة غير مسبوقة فى التقاليد العلمية الرصينة، فالكتاب الذى صنفه عمارة عام ١٩٧٢ «أداة للاستنارة والتقدم يتحول عنده إلى كتاب يخدم أهداف الاستعمار الغربى فى محاولته للقضاء على الخلافة سعيا إلى علمنة المجتمعات الإسلامية وتفريغها من مضمونها الحضارى والثقافى»، ثم قام عمارة بالادعاء بأن الشيخ قد تبرأ من الكتاب وتراجع عنه بعد عشرين يوما من صدور قرار حكم هيئة كبار العلماء ضده، وامتنع عن الكتابة فى الموضوع ورفض إعادة طبعه حتى وفاته فى ١٩٦٦، وتمادى عمارة مدعيا فى أن الشيخ أدان فى أكثر من محاضرة الكتاب. بل يدّعى عمارة أن الشيخ قال إن طه حسين هو مؤلف الكتاب، وأنه فاجأه بالكتاب مطبوعا باسمه». (ص ١٠١)، وأود هنا أن أدلى بشهادتى فيما أورده د. نصر حامد أبوزيد عن تقلب محمد عمارة، فقد أتى إلينا ذات يوم فى حزب التجمع، وقال قصة إن الشيخ تراجع عن كل ما قال وأوصى بعدم نشر الكتاب، وردا على هذه الأكذوبة واصلت البحث ووجدت العكس تماما. فقد أدلى الشيخ بحديث إلى جريدة إنجليزية تصدر فى مصر، شدد فيه على تمسكه بموقفه، وإصرارا منه على ما فى الكتاب أعاد نشر الحديث باللغة العربية فى جريدة «السياسة» عدد ١٤ أغسطس ١٩٢٥».
وبعد سنوات ينشر الشيخ على مقالا ليبراليا عاصفا (الهلال أغسطس ١٩٢٨) يعلق فيه على كتاب «السفور والحجاب للآنسة نظيرة زين الدين» يقول فيه «وإنى لأحسب أن مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظرى فى مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ. فلست تجد من المصريين إلا المخالفين منهم- من يتساءل عن السفور: هل هو من الدين أم لا؟ ومن العقل أم لا؟ بل تجدهم وحتى الرجعيين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص عنها لحياة المدنية الحاضرة»، ثم هو يوجه تحية جادة لمؤلفة الكتاب، فهى كما وصفها «شابة فتية من بنات الشرق تنهض بالدعوة إلى ما تعتقده صوابا، وإن خالفت فى ذلك رأى الشيوخ والمتقدمين، فخوف البعض من إعلان آرائهم الحرة وإن خالفت رأى الجموع، يصمهم بأنهم ليسوا بأنفع للبشرية من أهل البلد الذين لا يميزون بين خير وشر، بل ربما كان أولئك فى سكوتهم عما يعرفون، وفى إعراضهم عما انكشف لهم من الحق أحدّ درجة من الحمقى والمغفلين، فالذى ينقصنا هو الشجاعة فى الرأى وقول الحق من غير تردد ولا رياء، فهذا مبدأ الكمال الإنساني، وهنا تختلف أقدار الرجال، مصلح ومفسد، وشجاع أو جبان» (لمزيد من التفاصيل راجع كتابنا. عمائم ليبرالية، كتاب اليوم، يونيو ٢٠٠٢- ص ١٢٩).
وأتأمل مسيرة محمد عمارة التالية؛ فقد تهاوت به حتى وصلت منتهاها فى خطابه الشرير والملغوم أمام المخلوع محمد مرسى متحدثا عن سوريا.
وأتأمل العبارة التى اختتم الشيخ على عبدالرازق مقاله السابق، وأكاد أراها وكأن الشيخ قالها على أمثاله. 
لكن المثير للدهشة أن محمد عمارة لم يزل يتقلب أو يحاول.. أتذكر قول الشاعر:
إن الأفاعى وإن لانت ملامسها.. عند التقلب فى أنيابها العطب.
ونعود إلى الحوار الجميل الذى نشره نصر فى آخر الكتاب، والذى دار بينه وبين محاوره فى طرقات جامعة ليون وشوارع المدينة الشديدة الهدوء سأله المحاور:
س: هل تعتبر حياتك فى خطر؟
ج: «الحياة دائما فى خطر، دائما فى عالمنا هذا الثالث والرابع.. لذلك لم أعر كثيرا اهتماما لخطابات التهديد التى لقيتها فى سياق حملة التكفير التى شنها ضدى بعض خطباء المساجد، وبعد صدور حكم محكمة الاستئناف بتكفيرى وإلزامى بتطليق زوجتى بيوم واحد أعلنت منظمة الجهاد عن طريق رسالة بالفاكس نشرت فى كثير من الصحف العربية إهدار دمى، وأن من واجب كل مسلم أن يسعى لقتلى، بل أهدرت دم كل من يتصدى للدفاع عنى».
وهنا أحست مؤسسات الدولة أن التهديد جد لا هزل فاتخذت إجراءات حراسة مشددة حول المسكن، وأصبحت حركتنا مرهونة بموافقة الأمن والإجراءات المناسبة» (ص ٢٢٤).
وأتوقف لأكمل ما قاله نصر فى حواره، فقد حكى لى خلال زيارتى له فى منزله بليدن، أنه كان يقيم فى ٦ أكتوبر ولا يمتلك سيارة ولا يعرف قيادة السيارة، وأن تحركه كان يتطلب أن يحشر نفسه - وهو لمن لا يعرفه بالونة ضخمة فى الأتوبيس ومعه حراس بالرشاشات وهذا مستحيل.
ومن ثم كان الرحيل خيارا وحيدا. ونعود إلى نصر حامد أبوزيد فى حواره، ونقرأ «بعد أربع سنوات كاملة من الحياة فى الغرب الأوروبى وفى مناخ علمى وأكاديمى مغاير كما وكيفا، وبرغم الظروف الكريهة التى ألجأتنى قسرًا للرحيل إلى منفاى، لا يزال كثير من قناعاتى الأساسية فى السياسة والاجتماع والثقافة والفكر تكتسب ثباتا، ولعل على رأس هذه القناعات الإيمان بضرورة التجديد الدينى بصفة خاصة، وذلك انطلاقا من طبيعة التحديات التى لا أزال أراها تواجه عالمنا العربى والإسلامى.
ولعل من أهم تلك التحديات ذلك الاستخدام الإيديولوجى النفعى للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية محلية عاجلة. وسواء تم هذا الاستخدام من جانب جماعات سياسية بعينها، أو من جانب أنظمة وسلطات فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية، فالنتيجة واحدة، وهى تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله فى وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية» (ص ٢٢٤).
ويواصل نصر حامد أبوزيد «لننظر مثلا فى مقولة إن الإسلام دين شمولى ينظم شئون الحياة الإنسانية الاجتماعية والفردية فى كل صغيرة وكبيرة بدءا من النظام السياسى ونزولا حتى إلى كيفية ممارسة الفرد لنظافته الذاتية فى الحمام».
ويمضى د. نصر متململا وخائفا من تغلغل من لا يعلمون للإفتاء فى قضايا لا يعرفون عنها شيئا، وحين تأخذ أسئلة الحياة اليومية هذا المنحى يتحتم أن يكون رجل الدين عالما فى كل المجالات وخبيرا فى كل القضايا حتى أكثرها تخصصا.
وأستأذن فى أن أترك حوار د. نصر قليلا لأتذكر حوارا جرى فى إحدى لجان مجلس الشورى، حول نقل الأعضاء، وكيفية التأكد من وفاة الإنسان، وتحدث أطباء عن حالة وفاة إكلينيكية يموت فيها جذع المخ وتبقى بقية أعضائه صالحة للنقل. 
وهنا انبرى شيخ معمم أتى ليمثل الأزهر، فأفتى قائلا «أنا ما ليش دعوة بالكلام ده، أنا أجيب مراية وأحطها أمام النائم فإن شبرت (أى أتاها بخار من أنفاس) النائم يكون حيا ومفيش حاجة اسمها جذع المخ ولا كلام من ده».
وسألته: يا مولانا هل كانت هناك مرايا فى زمن الرسول؟ وصمت الشيخ.
وأعود إلى ما قاله نصر فى حواره المنشور فى كتابه «وقد عهدنا ممن يعتبرون أنفسهم قيمين على حماية الدين فى كل عصر من العصور إذا سئلوا عن رأى الدين فى شأن من الشئون، فإنه يصعب على الواحد منهم أن يقول مثلا «هذا أمر لا شأن للدين به»، ذلك أن من شأن هذا الجواب أن يزعزع مقولة الشمولية التى يستند الخطاب الدينى عليها فى ممارسة سلطته.
ويتناسى هؤلاء أن نبى هذا الدين ومتلقى وحيه من الله عز وجل بواسطة الروح القدس جبريل، لم يجد غضاضة حين لم ينجح اقتراحه فى تأبير النخل أن يعلن أن هذا كان رأيا ارتآه ولم يكن وحيا من عند الله، وقال «أنتم أدرى بشئون دنياكم» (ص ٢٢٥).
وردًا على سؤال: ما الذى تغير فى مفهومك لتجديد الفكر الديني؟ قال: لقد أدى الفهم السقيم للإسلام إلى ترسيخ سلطة كل من نصب نفسه حاميا للدين.
وبرغم الدعاوى الفارغة القائلة بأنه لا سلطة دينية فى الإسلام، فإن الواقع الفعلى يؤكد وجود هذه السلطة، بل وجود محاكم تفتيش فى حياتنا، ويقول «نحن بحاجة إلى التجديد الفكرى والسياسى والاجتماعى وفى كل مجالات المعرفة لكن التجديد فى الفكر الدينى أصبح الآن أكثر إلحاحا وضرورة».
ويا أخى نصر سلاما لك وتحية.. وستبقى دوما مضيئا في سماء الوطن.