الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شغب الكوليرا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
توجد لحظات فى التاريخ يتجاهلها المختصون، ليس بسبب سوء النية بالطبع، ولكن لأن أبطال قصصها ليسوا من الذين يتتبع التاريخ خطواتهم، هذه اللحظات من وجهة نظر محبي التاريخ ربما تكون أهم من الوقائع الرسمية التى تدور فى القصور، قرأت مؤخرا عن شغب وباء الكوليرا، أو شغب «رواق الشام» كما أسمته الأمريكية أنديرا فولك جينسك، فى دراستها الوثائقية «الأزهر والإصلاح الإسلامي» الصادرة فى لندن 2010، عبدالكريم سلمان سكرتير مجلس شئون الأزهر، كان قد كتب تقريرا سنة 1896 عن رداءة الظروف الصحية فى الجامع الأزهر وما حوله، وعن أن الطلبة الفقراء الذين لم يجدوا سكنا يأويهم، عاشوا فى صحن المسجد يأكلون ويشربون ويبيتون فيه، وأصبح المسجد «منامة» كبيرة للمئات، واضطر بعض الطلبة إلى النوم على سطح المسجد، وغطيت مساحات واسعة من أرضيات المسجد وباحته ببقايا الطعام وبالتبعية الفئران، وعمت الفوضى المكان بسبب تناثر الأمتعة، وانتشرت روائح لا تتسق مع المسجد العريق، ولم يحصل على درجة العالمية سوى طالب واحد، وملأ التعصب صدور الطلبة كما كتب الشيخ أحمد الشاذلى، ودارت المعارك هنا وهناك، وكانت أقواها بين طالب من الصعيد وطلبة رواق الشام لأنه حاول النوم فى رواقهم، واضطر البوليس إلى التدخل للفصل بينهم، فى صيف هذا العام ضربت الكوليرا مصر، ووصلت حالات الوفاة إلى 40 حالة يوميا، وكانت الحكومة حريصة على محاصرة الوباء والسيطرة عليه بالعديد من الإجراءات المتشددة، إلى أن أصيب طالب شامى بالمرض، وفضل أبناء بلده المخاطرة وعدم تسليمه للسلطة التى تريد نقله إلى المستشفى، وعندما حاول المسئولون أخذ المريض بالقوة قاوم الشوام بضراوة، وتدخلت الحكومة بالقوة المسلحة وقتل طالب برصاص البوليس، هذه لحظات كانت مصر تسعى فى اتجاه الحداثة وفرض النظام مثل الأوروبيين، وكانت المعركة بين الطلبة والحكومة على أجساد الطلبة المرضى، بالطبع توجد فى ذاكرتهم القريبة انتقال طالبين (شامى ومغربى) إلى المستشفى لنفس السبب ولم يعودا لأنهما فارقا الحياة، كان شيخ الأزهر حسونة النواوى، تلقى إشارة بوجود تجمهر فى الرواق، وأخبره الطلاب «كل من يذهب إلى المستشفى يموت»، إلى هذا الوقت لم يكن الشعب مطمئنا لتسليم جسده إلى السلطة، بسبب العادات وبسبب خرافات بعض المشايخ، ومعركة «قصر العينى» هى من معارك الحداثة العظيمة، والانتقال بمصر من مرحلة إلى أخرى، وتناولها ببراعة الدكتور خالد فهمى فى كتابه «السلطة والجسد» الصادر عن «دار الكتب» قبل سنوات، انتصر الطب الحديث بقوة القانون، وأصبح للجسد شهادة ميلاد وشهادة وفاة لا يدفن إلا فى وجودها، اقترح «النواوى» أخذ الطالب إلى قريبه، وأخبروه أن صاحب البيت رفض، لأنها الكوليرا، تفاصيل المفاوضات طويلة وتم ضرب محافظ القاهرة ماهر باشا، لأنه يريد التفاوض لحل المشكلة بدون عنف، ورئيس الوزراء حذر الجنود من التعامل بالقوة، وقام المحافظ بعمل حجر صحى حول الجامع الأزهر بأكمله من جميع النواحى، وأعلن أنه تحول لـ«مصحة وبائية»، وأغلقت المنطقة، ولم يتوقف قذف الجنود بالحجارة، ثم وصلت التعزيزات بقيادة رئيس البوليس الإنجليزى مستر كلاوس، دخل الجنود حرم المسجد بالقوة وقبضوا على 105، وسيق المتهمون إلى قسم السيدة زينب، ووجد الطالب المصاب بالكوليرا ميتًا، الشيخ أحمد الشرقاوى كان متعاطفا مع الطلبة، واتهم الإنجليز بتدنيس المسجد، وكتب كما ذكر الباحث ماجد فتحى: «كما يجب على فرنسا لذلك أن تقوم لبريطانيا بواجب الشكر، حيث إنها محت نقطة سوداء كانت تاريخ ذلك الاحتلال الفرنساوى، وهى دخول بعض رجاله إلى الأزهر وجنوده، واتهم البوليس المشايخ لأنهم لم يتدخلوا بالشكل الكافى، الخديو عباس حلمى منح ماهر باشا النيشان المجيدى وأشاد بالبوليس، وأغلق رواق الشام لمدة عام، وتم ترحيل 60 طالبا شاميا، وحكم بالسجن على عدد كبير منهم بأحكام متفاوتة»، هذه الواقعة تجعلنا نتعاطف مع «النظام» فى اللحظات التى ينبغى أن تكون للدولة هيبة، التدخل حاصر الكوليرا والخرافات ورجال الدين الخائفين على نفوذهم بتدخل الدولة.. وأيضا كان شغب الكوليرا هو سبب إصدار قانون الأزهر سنة 1896.. الذى حسن من ظروف الطلبة ومنح الدولة سلطة على المكان.