الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"جوابات حراجي القط".. تاريخ بناء السد العالي بلسان "الشقيانين"

نهال كمال زوجة الابنودي
نهال كمال زوجة الابنودي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أعد الملف محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامى

تصوير هشام محيى ومحمود أمين


كلمات «الخال» وثيقة تاريخية عن كفاح «الغلق والفاس» فى أقصى الجنوب

فى السادس والعشرين من يوليو عام 1956، والتى توافق ذكرى خروج الملك فاروق من مصر، أعلن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قرار تأميم شركة قناة السويس لتصبح شركة مساهمة مصرية، بعدما سحبت الولايات المتحدة عرض تمويل مشروع السد العالى بطريقة مهينة لمصر، ثم تبعتها بريطانيا والبنك الدولي؛ وبينما قدمت بريطانيا احتجاجًا على القرار رفضه ناصر، قامت هيئة المنتفعين بقناة السويس بسحب المرشدين الأجانب لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة بمفردها، إلا أن مصر أثبتت عكس ذلك؛ وبعد فشل كل المحاولات الدبلوماسية قررت كل من بريطانيا وفرنسا، بالاشتراك مع الكيان الصهيونى الهجوم على مصر فيما عُرف بـ«العدوان الثلاثي» بهدف سيطرة بريطانيا وفرنسا على إقليم القناة بحجة تأميم الملاحة فيها؛ لكن فشلت الدول الثلاث فى تحقيق أهدافها أمام المقاومة المصرية والضغط الدولي، ونجحت مصر فى حماية أراضيها وفرض سيادتها وإدارة القناة. تلك الملحمة التى سطرها المصريون فى صفحات التاريخ الحديث، كانت لها سطور أخرى من الشعر خطتها يد «الخال» بمراحلها كافة، لتصبح وثيقة تاريخية أخري، فى رائعته ديوان «جوابات حراجى القط» التى وثّق بها حياة العُمّال الذين بنوا السد بجهدهم وعرقهم، والتى حكى فيها «الأبنودي» مراحل بناء السد على لسان العامل البسيط «حراجي» الذى ينزح من قريته، سعيا وراء الرزق فى البداية، ليلتحق بالعمل ببناء السد، والتحولات التى تشهدها حياته، ومداركه، فى رحلة عمله، عبر خطابات فلسفية عميقة، رغم بساطة مفرداتها لزوجته فاطمة أحمد عبدالغفار، وأهالى قريته بجبلاية الفار.


«الأبنودى»: «حراجى» هتف بى لأكتبه بعدما صادرت «المباحث» نسخته الأولى

«الخال»: اعتبرت كأنى لم أكتبه وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح وأنجزته خلال أسبوع

جاء ديوان جوابات «الأسطى حراجى القط» كواحد من الأعمال الملحمية الطويلة التى كتبها الخال عبدالرحمن الأبنودي، وهى سيرة شعبية لاقت قبولا وانتشارا واسعا بعد طرحها من قبل الأبنودى لأول مرة عام ١٩٦٩، وتضاهى فى أهميتها ملحمة سيرة بنى هلال؛ فإن كانت الملحمة الشعبية لبنى هلال، تجسد أسطورة المخلص والمنتصر الذى يستطيع أن ينقذ أهله العرب من الجفاف، وإن كانت تحمل قيمة كبيرة فى الحفاظ على ذلك الموروث للراوى الشعبى الشفاهي، فملحمة حراجى القط تنظم ولأول مرة ملحمة حديثة للعصر الحديث لا تنتصر لحرب ولا تضع مبررات لهزيمة ولكنها تخلد روحا نضالية مصرية خالصة فى البناء والتعمير لكى تحتل مصر مكانتها الطبيعية على خريطة التقدم والنهوض.

انتشرت رسائل حراجى القط على ألسنة المثقفين والشعراء، وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، وموقع «اليوتيوب»، وساوند كلاود، وتظل مستمرة فى التناقل والانتشار عبر باقى الأزمان والعصور.

قديمًا انضم الأبنودى عام ١٩٦٦ لأحد التنظيمات الشيوعية، فقبض عليه، وأثناء اعتقاله أخذت المباحث مخطوط ديوانه، وأوراقًا أخرى، ويقول الأبنودى: «اعتبرت كأنى لم أكتبه، وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح، وذات ضحى يوم شتائي، هتف بى حراجى لأكتبه، فاندلعت الرسائل متتابعة بِكَرا، كأننى لم أكتبها من قبل.. أنجزته خلال أسبوع، ودفعت به إلى المطبعة من دون مراجعة، كأنه تحد لمن اغتصبوا حراجى الأول». لكنه اكتشف فى السجن أن «الشيوعية ليست طريقًا لتحقيق الذات أو تقديم الخير إلى الفقراء».

جاءت الجوابات فى خمس عشرة رسالة متبادلة بين حراجى القط أحد العاملين بالسد العالي، وزوجته البسيطة فاطمة أحمد عبدالغفار، يحكى لها فيها عن مشاهداته وانطباعاته عن أسوان، وكيف أن العمل فى بناء السد العالى كان سببا فى انفتاح بصيرته على دنيا كانت مجهولة بالنسبة إليه، وحرصت هذه الزوجة الريفية على معرفة المزيد عن السد والأشياء المجهولة التى شاهدها زوجها؛ فكانت المثير دائما والعامل الأبرز فى إثارة عملية الحكى لدى حراجي.

وكان اكتمال بناء السد العالي، كأعظم المشاريع التى بنتها مصر فى العصر الحديث وكأعظم مشروع للبنية الأساسية فى العالم يثير زهو مصر ويرفع الروح المعنوية لشعبها.


وإن كانت الكتابة عن السد تأخذ شكلا معينا بحكم الظروف السياسية العصيبة التى مرت بها البلاد، وبحكم الآمال التى بثها فى نفوس الشعوب ذلك الزعيم الملهم عبدالناصر، فكانت الكتابة تتجه ناحية العراقيل التى واجهت البناء والتمويل لكن الخال عبدالرحمن الأبنودى يتجه بكلماته إلى تلك الحالة الخاصة التى عاشها الأسطى حراجى وزوجته فاطمة.

فالمتلقى يلتقط تلك النغمة الإنسانية العالية التى يتحدث عنها الخال عندما يصور مثلا غياب العمال فى ظلام الأنفاق فى موقع العمل؛ فيستدعى حالة من الخوف تشيع فى نفوس المستمعين ولا سيما فاطمة التى تسمع خطابات زوجها، ويتساءل فيها: هل تعرف زوجته هذه الأنفاق؟ وتتبدى أسوان بمظهرها المقفر، فهى إن كانت تظهر فى خيال المستمع بلدًا به شوارع وسرايات وفيللات، لكن أسوان الأخرى التى يعمل بها حراجى عبارة عن جبل وصحراء قاتلة، يصعب على الإنسان أن يتحمل معاناة تلك الطبيعة وذلك العمل دون إيمان ودون مقابل، ولم يكن حراجى من الذين ينتظرون المال، لكنه كان ينتظر أن يشير يده ناحية الجزء الكبير والمهم فى بناء السد فيقول أنا من عملت هذا.


لقد كانت تثير تلك الأخبار التى تشيع بين الناس عن تعرض العمال للموت والاختفاء وغير ذلك فتذكر له زوجته تلك الأخبار بقلق كبير، وإن كان قلق الزوجة مسيطرًا وموجودًا بشكل كبير؛ فإن خوف الأم أيضا ورغبتها فى أن ترى ابنها «على أبو عباس» يستطيع أن يقوم بأعباء أسرته من وراء عمله فى ذلك المشروع.

وتظل نظرة حراجى لتلك الآلات الكبيرة التى شاركت فى البناء مثيرة للدهشة؛ فهو ابن القرية الذى لم يتعرض لتطورات العصر لكنه يصل إلى عمق الفكرة ويتدبر تلك العقول الغربية التى اعتمدت على التعليم فصنعت للبشرية ماكينات وآلات ضخمة تستطيع أن تحمل فوق ظهرها ١٠٠ نخلة كما يصفها الخال من منظور العامل البسيط، وأيضا تستطيع أن تحرك عربة قطار يعجز عن تحريكها الرجال الأشداء.

ولكن ماذا حقق السد لحراجي؟ لقد فتح له الباب على الوعى الكامل بالدنيا، أن يعرف أهمية السد، ضجر الغربة، مرارة الشوق، تعاون الإنسان مع أخيه الإنسان لا سيما حين يقول تلك الحكاية:

«من قيمة ست سبع تيام قاللى الأستاذ طلعت / روح الورشة يا حراجي/ عاوزين ترسين من قيمة سته ف سته وعشرين سُمك صغير/ طبعًا طير رحت للورشة/ واحمد ربى أن أنا رحت ساعتها على طول/ وكإن الأستاذ طلعت كان حاسس/ بره الورشه لقيت أوسطى ميكانيكي/ مزرود تحت خابور قد الحيطة/ وأوسطى تاني/ عمال يرفعه عنه ما قادرشي/ الصخص خلاص حيموت/ وازعق بعلو الحس وأقول «الله يا ولاد»/ جات الرجال م الورشة والموقع زى النمل/ خلصنا الراجل».

لقد أثارت تلك الحكاية حراجى وجعلته يفكر فى تعاونه مع الآخرين وأهمية وجود الإنساء ودوره فى البناء الاجتماعى للحياة، ثم يتعرض لخوف العمال من مخاطر العمل وهروبهم أثناء زرع الديناميت لتفتيت الجبل والصخور، ورغم كل هذا يعمل حراجى ويعترف أنه لولا السد، لظل يتعثر فى طريقه الذى يسلكه أى ريفى بسيط يعمل أجرى فى الحقول، لقد نقله على كل المستويات الفكرية حين فتح بصيرته والمالى حين يرسل لزوجته المال، ولعل حراجى يمثل الإسقاط المباشر لمصر؛ فلقد استطاع السد أن يخلق وجودها فى عصرها الحديث.


النضال العمالى والبيئة الريفية غلفت تفاصيل «الجوابات» بجانبها الإنسانى

«طلعت أفندى» أحد مهندسى السد ساعد فى توسيع مدارك «حراجى» وتميز بالبساطة

كتب الخال الأبنودى قصائد الجوابات فى العام ١٩٦٦، وكانت الأفكار التى تخص الاشتراكية برعاية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر منتشرة بين الشباب، لا سيما هؤلاء المؤمنين ببطولة وزعامة ناصر، وقد اعتنق الأبنودى الأفكار الاشتراكية ثم الشيوعية، التى تنحو بناحية خاصة تجاه المال وسيطرة الدولة على أساليب الإنتاج والثروة، ودور الطبقات الدنيا المكونة من العمال والفلاحين فى بناء الأوطان وتغيير مسار الحكومات والأنظمة السياسية، وكانت تلك البصمة الخاصة بالنضال العمالى وقدرتهم على فهم الواقع وتحقيق النهضة الحقيقية للبلاد التى تتمنى دخول عصر الصناعات والتحول الاقتصادى الكبير.

ظهرت البيئة العمالية جلية فى قصائد الجوابات فتحدث عن العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وكانت روسيا آنذاك تدعم تلك الشعوب التى تتبنى هذه الأفكار؛ فلقد ساعدت مصر ووقفت بجوارها أثناء بناء السد بالخبراء والآلات وغير ذلك، ودعمت موقف مصر سياسيا فى المحافل الدولية، وقد ساعدتها أثناء الهزيمة وأثنا النصر، فيقول الأبنودى عن روسيا، أو الاتحاد السوفيتى آنذاك:

«روسيا.. اسمها روسيا/ دولة، دولة كبرانة/ والناس دى يا فاطنة/ مش مجبورة ع الشغل/ عشان روحا/ مجبورة عشانا إحنا/ نقف على رجلينا/ ويكون الواحد مننا حر.

لقد جمعت الجوابات شخصيات مهمة حفلت بالرموز والإحالات المهمة كان من أهمها الأسطى حراجى العامل بالسد العالى الذى ذهب مع رفاقه إلى حر الجبال، فى القطار الذى أسرع بطريقة جنونية كأنه «داس على بصة نار»، وحراجى القط بطل القصة، وهو فلاح بسيط من جبلاية الفار عمل ضمن الآلاف الذين تم جلبهم للمساعدة فى أعمال البناء، وفاطمة أحمد عبدالغفار: زوجته، وهى سيدة ريفية بسيطة، ولكنها تحمل رغم بساطتها وسذاجتها فى أحيان كثيرة عقلا ووعيا مستنيرا، ودافعا قويا للحياة وفهمها، ولقد لعبت الزوجة دور المثير للحكى فأخرجت من زوجها تلك التأملات التى راودت عقله وباله.

أما طلعت أفندي: أحد مهندسى السد العالي، وهى الشخصية التى ساعدت فى نقل الوعى التقدمى لحراجى القط كما ساعد فى توسيع مداركه وتبصيره، وتميزت شخصيته بالبساطة والتواضع والعمق، لا يكف عن توجيه حراجى للتساؤل والتأمل وسماع الحكاوى المعينة على نقل التجارب الإنسانية القديمة فى استبصار الحياة.

أيضا الحاج حسين العكرش: مقاول أنفار، يشبه ريس عمال الترحيلة، يذهب إلى القرى ويجلب منها العمّال، ويتقاضى أجرا على كل فرد يجلبه، وهو الذى طرح فكرة العمل فى أسوان لحراجى القط للمرة الأولى، وكان مثيرا للقلق فهو الناس تجرى وراءه لأنهم يعرفون أن بيده أرزاقهم حين يأخذهم للعمل، لكنه لم يكن يهمه من ذلك إلا أن يتاجر فى الناس، الملوى: أحد رفاق حراجى القط، وأحد العمّال فى السد العالى.

على أب عباس: أحد رفاقه العاملين فى السد العالي، أما مرزوق البسطاوي: عامل البريد الذى كان همزة الوصل بين حراجى القط وزوجته، وشخصيته لا وجود لها لكنها العامل الأهم فى نقل الخطابات وقراءة ذلك للأهل وقد جاء محملا بالدلالات المختلفة، نظلة: أخت حراجى القط وجاءت بصورة عرضية للتدليل على تلاحم الأسرة الريفية، والشيخ قرشي: شيخ الكُتّاب الذى كان يُشرف على تعليم «عيد» ابن حراجي.


كما نقلت قصائد الخال ملامح البيئة المحلية الريفية التى أظهرها بجانبها الإنسانى البالغ والعميق، وقد نقلها فى قالب شعرى سهل وممتع، وكانت قضية عمل المرأة من تلك القضايا التى تشغل بال القصيدة وتناقشها، فنظرة الرجل للمرأة التى تعمل تكون مخيفة لفاطمة؛ فهى تخشى أن يوصد الرجال الأبواب فى وجهها لأنها خالفت ما دأبت عليه.

وتطرح زوجته عليه سؤال العمل بطريقة بسيطة تعتبر مدخلا ذكيا لتفكيك قضية عمل المرأة بالنسبة للرجل فيقول:

«فى حاجة تانية يا حراجى/ إشمعنا الشغل تملّى للرجال/ أمّال الناس كانت راح تعمل كيف/ لو ربنا بس خلقها كلّها نسوان؟».

كما تقول: «طول عمر المرة منينا يا ود خالي/ ما سبوها تعمل حاجة فى البيت/ إلا إن كانت الشغلة قدام الفرن/ وحط الطاجن ع الكوانين»، وتقول: «واحدة عفيّة زيى يخلوها للشيل والحط/ مش ملى الجرّة والكنس».

ثم تستشعر التخوف من رجال جبلاية الفار فتقول: «والنبى لو قلت كلام دى للجبلاية/ لرد فى وشى بيبانها/ والنبى والرجالة ما تخلينى أقعد مع نسوانها».

فجاءت الطريقة ذكية وواعية فى مخاطبة أهل البيئات المحلية الذين يحافظون على عادات وتقاليد صارمة تتعلق بعمل المرأة وخروجها من البيت واختلاطها بالرجال، ونجحت الشخصية فى عرض القضية الأهم والأبرز بطريقة تهم كل امرأة بعقل مستنير.. «وفاطنة ما تبقاش فاطنة بت أحمد/ لو ما الجبلاية تعمل نسوانها زيّها يا حراجي».

فهى لا تسعى فقط لكسر العادة فتخرج للعمل، بل تسعى أيضا لتكون مثالا ونموذجا يحتذى به فتكون سببا فى تحرير آلاف النساء، وليكن العمل مدخلا لكسب المال بل وكسب الذات أيضا.

«تتباع ملوخيتها فى السوق يوم السوق/ أيوه.../ حطلع أبيعها فى السوق/ وأنا رايحة فين؟/ رايحة أبيع عرقي، وأجيب حقو/ ما فيهاش حاجة».

والجوابات تتناول موضوعها بطريقة فلسفية رائعة وبسيطة تناسب ثقافة تلك الشخصيات التى تتحرك داخل العمل الشعري، إنها حكاية التحولات الكبيرة فى حياة المصريين، زمن شهد أحداثًا عظيمة غيرت مجرى التاريخ فيها تعرض الشعب للهزيمة، لكنه استمر فى النضال ليتمم بناء مشروعه القومى الكبير، ومن منظور حراجى يشاهد الخال ذلك المشروع الكبير فيرى أسوان والجبال والديناميت والعمال والمرأة التى ترتدى البدلة وتنزل مواقع العلم والروس والمثقفين.

وإذا كان السد فتح عين حراجى على العالم فد فتح عين زوجته على المطالبة بحقوقها فى العمل ومخالطة الناس ونزول السوق للتجارة وبيع ما تنتجه الأرض.

ولم تفتح فاطمة فقط قضايا المرأة، وبخاصة التى تناضل فيها النساء العاملات بالمجال الحقوقي، بل كانت مدخلا كبيرا لفهم الوضع القائم فى عملية بناء السد التى حرصت على إثارة عامل الحكى لدى زوجها حراجى ففاض بمكنونه وتحدث عما يدور بداخله وعن مشاهداته ورأيه.