الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ألم يأن للضمائر النائمة أن تستيقظ؟!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا شك أن الله فطر الإنسان على قيم الحق والخير والجمال، ولكن حكمته تجلت فى أن يجعل لنا الإرادة الحرة فى أن نسير فى طريق الخير أم الشر، فيخيرنا ليختبرنا.. وخلق لنا الضمير الذى يؤرقنا حين نخطئ، لذلك يحاول الإنسان دائما البحث عن مبررات لما يفعله، حتى يريح هذا الضمير.. وقد يصدق نفسه ويتناسى أخطاءه، وربما يراها كإنجازات، حتى يصبح هذا الضمير مع كثرة الخطايا فى سبات عميق!!.
وقد جسد الكاتب والشاعر السويسرى فريدريش دورينمات (١٩٢١- ١٩٩٠) هذا المعنى فى إحدى رواياته، والتى استلهمها الكاتب يسرى الجندى فى السهرة التليفزيونية «ليلة القتل الأبيض»، التى قام ببطولتها باقة من كبار الفنانين، منهم مصطفى فهمى، ورشوان توفيق وعبدالرحمن أبوزهرة، والتى يقوم فيها بعض الأصدقاء من كبار السن بعد خروجهم على المعاش بعقد جلسة محاكمة كل يوم لإحدى الشخصيات، ويتصادف أن أحد رجال الأعمال تتعطل سيارته فى المكان النائى الذى يسكنون فيه، فيقررون استضافته حتى الصباح، ويطلبون منه بروح الدعابة أن يكون هو محور محاكمتهم، فيقبل بشجاعة ويبدأ فى قص حكايته التى يراها من وجهة نظره تدعو للفخر، حتى تبدأ المحكمة المصطنعة فى البحث فى ضميره ودوافعه، ويكشفون له ولنا مكنون ضميره وحقيقة أفعاله دون المبررات التى كان يجدها لنفسه، ثم يبدأون فى توجيه الاتهامات له، والتى تنتهى بإصدارهم حكمًا بإعدامه، وتنتهى المحاكمة بضحكات الأصدقاء، وفى نفس الوقت وجوم رجل الأعمال الذى بدأ ينظر لمشوار حياته بطريقة مختلفة، بعد أن أيقظوا ضميره.. وبعدها يذهب الجميع ليناموا، وعند إيقاظه فى الصباح يجدونه ميتًا، لأن الرجل لم يحتمل أن يرى نفسه على حقيقتها!!..هكذا الإنسان يحاول تبرير تصرفاته حتى يقبل نفسه ويتحملها، وعادة لا يستفيق ويستيقظ ضميره مرة أخرى إلا مع نوائب الدهر، أو حين يطبق الله قوله فى سورة «آل عمران»: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».. فيبدأ الإنسان فى مساءلة نفسه وحسابها، ويدرك أنه «كما تدين تدان».
وأذكر كلمات قالها لى واحد من الشخصيات المرموقة- ممن يتولون إحدى الوظائف المرتبطة بالقانون والعدل- وهو يحاول أن يبدى لى النصيحة من واقع خبراته فى الحياة، حينما شعر بأننى أتمسك بالمبادئ التى لم ير هو فيها سوى شعارات، فكانت نصيحته فى صيغة سؤال استنكاري.. ماذا لو التزمت بقوانين المرور المطبقة فى العالم كله وأنت تمشين فى شوارع مصر التى تتسم بالعشوائية؟!.. واستطرد قائلا: ستصبحين أنت المخطئة، وسوف تنهال عليك الشتائم من السيارات الأخرى التى تسير بعشوائية، لأنك ستكونين أنت من يعرقل الطريق.. ودلالة ما قاله والرسالة التى أراد توصيلها لي، أننا إذا رأينا الخطأ هو السائد فلا يجب أن نتمسك بالصواب، حتى نستطيع أن نعيش بسلام وأمان دون مشاكل.. وقد صدمت مما قاله وتأملته طويلا، فرغم أن هذا المنطق له حجته، وقد يبدو مقنعًا للكثيرين، إلا أنه يهدر كافة مبادئ الخير والحق، ويعطى المبرر لكل مخطئ أو فاسد فيما يفعله، بحجة أن هذا هو السائد وطبيعة العصر!!.
وإذا استسلمنا جميعا لهذا المنطق، فلا يمكن أن نرى بلدنا فى يوم ما كما نتمنى، وكما تستحق أن تكون.. فكما قال عالم النفس والفيلسوف الألمانى إريك فروم (١٩٠٠- ١٩٨٠): «الإنسان المتكيف مع مجتمع مريض، هو إنسان مريض».. فعلينا أن نحاول علاج مشكلاتنا ومواجهتها، بدلا من أن نظل جميعا نلعن الظروف وننتقد الأوضاع، دون أن نحاسب أنفسنا أولا ونحاول الإصلاح، قد يكون بالفعل المتمسك بالمبادئ وقول الحق فى هذا الزمان كمن يمسك بجمرات النيران، ولكن كما يقال أصحاب المبادئ يعيشون مئات السنين وأصحاب المصالح يموتون مئات المرات، أو كما يقول الإمام الشافعى: «قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم فى الناس أموات».. فعلينا أن نحدد اختياراتنا منذ البداية ونكون مستعدين لتحمل نتائج تلك الاختيارات.. هل نريد أن تنام ضمائرنا لنحقق مكاسب وقتية ونستريح من المتاعب التى تجلبها المبادئ وكلمة الحق؟! أم أننا سنتمسك بالمبادئ التى نؤمن بها ونتيقن أن الدنيا كلها لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وأنه لم يخلقنا فيها سوى للاختبار؟! وكما يقول الشيخ الشعراوي: «الدنيا رخيصة جدًا، قد يملكها غنى، فقير، ملك، وزير.. لكن الجنة غالية لن يملكها إلا من عمل العمل الصالح».. يا ليتنا نحاسب أنفسنا دائما، ولا نسمح لضمائرنا أن تنام بفعل مبرراتنا الواهية، حتى لا نكون ممن وصفهم الله تعالى فى الآية (١٠٤) من سورة الكهف: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».