الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

البيروني مدافعًا عن التثليث المسيحي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نقف أمام فكرتين فى شأن التسامح الدينى والفكري: صاحب الأولى ينفى وجود التسامح فى التراث العربى الإسلامي، التاريخ كافة فى ذهنه حروب ومَقاتل. الثانية صاحبها ينفى وجود التطرف والتشدد ويحسبُ أن كل التراث الدينى والسياسى رحمة فى رحمة، وأن النصوص الدينية والممارسات كافة صالحة لكل زمان ومكان، وبالتالى لسنا بحاجة إلى مراجعة وتجديد وتطوير وتأسيس لثقافة تنوير وتسامح. 
أرى أصحاب الفكرة الأولى عدميين، لا يتركون مجالا للبناء، وأصحاب الثانية إقصائيين بعقيدتهم، فمن وقع عليه حيف التشدد والتطرف لا يأمل بالتجديد المطلوب، ولا بالتسامح المنشود.
عندما نأتى بأبى الريحان محمد بن أحمد البيرونى (ت ٤٤٠هـ)، مثالا على التسامح الديني، تجاه أجداد مواطنى بلداننا الآن، من غير المسلمين، لا نعنى بذلك أنه الوحيد المنفرد بهذا الفكر والرؤية فى شأن حمل عقائد الآخرين على محمل النية الحسنة، إنما هناك تُراث يسند ثقافة التسامح، سواء أكان فى المجال الفكرى أم الفقهي، مارسه خلفاء وقُضاة وفقهاء وفلاسفة وكُتاب ومؤرخون وشعراء. 
هذا إذا تفحصنا سير تلك العصور، أما إذا أخذنا الأمر على التعميم، وبنية مسبقة، فلا نجد فى التراث غير التطرف والغلو. إلا أن ما يُميز مثقف عصره البيرونى أنه اطلع على أديان الآخرين، فتجده مثلًا «دخل بلاد الهند، وأقام بينهم، وتعلم لغتهم، واقتبس علومهم» (الحموي، معجم الأدباء)، فتحدث عنهم بما عَلم، واقترب من الصابئة والمسيحيين، فنظر إليهم نظرة العالم الفاحص، لا نظرة المشكك، حامل فكرة التكفير ضدهم.
كان متعدد العلوم فهو الطبيب، والفيلسوف، والفلكي، خالط ابن سينا (ت ٤٢٨هـ)، وبينهما مراسلات (ابن أبى أُصيبعة، عيون الأنباء فى طبقات الأطباء).
نأتى بمثالين مما فسر به البيروني، بحسن نية، وبدافع ما نصطلح عليه بالتسامح، من ديانات أبناء زمانه، وممن اهتم بشأنهم، بغض النظر عن صحة رأيه من خطئه، فنحن أمام معالجة مفكر لعقائد من يختلف معهم فى الدِّين، بنية العلم لا الكسب الدينى أو المذهبي.
دافع أبو الريحان عن الصابئة المندائيين، ممن يعيشون بالعراق وغيره اليوم، ويختلف فيهم الفقهاء والمؤرخون، بين متشدد ضدهم ومتسامح متفهم. قال فيهم رادًا على من جعل ظنه عقيدة ضدهم: «نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله وينـزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب (منـزه من الصفات) لا بالإيجاب، كقولهم: لا يحد، ولا يُرى، ولا يظلم، ولا يجور، ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازًا. إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة» (البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية). وعندما تطرح مسألة دينية أمام البيروني، يجيب بما لا يترك ضغينة أو شكًا بدين الآخر، وتراه يفسر الثالوث المقدس بما يقبله العقل ويرتضيه أهل هذا الدين. فاحتج أبو الريحان للمسيحيين بأن قولهم بالأبوة بمعنى السيد لا الأب على الحقيقة. مثل تلك التى دافع عنها جاثليق الكنيسة الشرقية بالعراق طيمثاوس الكبير (ت ٨٢٣م)، أمام الخليفة المهدى (ت ١٦٩هـ)، وذكرت فى كتاب خاص (البطريرك طيمثاوس الكبير رائد الحوار المسيحى الإسلامي، مجلة بين النهرين ٤/ ١٩٧٦). قال: «اسم الأبوة والبنوة؛ فإن الإسلام لا يسمح بهما إذ الولد والابن فى العربية متقاربا المعنى؛ وما وراء الولد من الوالدين، والولادة منفية عن معانى الأبوية، وما عدا لغة العرب يتسع لذلك جدًا، حتى تكون المخاطبة فيها بالأب قريبة من المخاطبة بالسيد، وقد علم ما عليه النصارى من ذلك، حتى إن مَنْ لا يقول بالأب والابن فهو خارج عن جملة مِلتهم، والابن يرجع إلى عيسى بمعنى الاختصاص والأثرة وليس يقصر عليه، بل يعدوه إلى غيره، فهو الذى يأمر تلاميذه فى الدُّعاء بأن يقولوا: «يا أبانا الذى فى السماء»، ويخبرهم فى نعى نفسه إليهم بأنه ذاهب إلى أبيه وأبيهم. ويفسر ذلك بقوله فـى أكثــر كلامــه عــن نفسه إنه ابــن البشر» (البيروني، تحقيق ما للهند مِن مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة).
هذا، ومن يطلع على كتب البيروني: «تحقيق ما للهند مِن مقولة»، و«الآثار الباقية»، و«القانون المسعودي»، وغيرها سيجد ما يُخالف المصنفات فى الملل والنِّحل، مِن قبل الكُتاب الفقهاء، والعِلة أن البيرونى ينطلق مِن العِلم والواقع مثلما يراه، بينما مؤرخو الملل والنِّحل فمنطلقهم عقائدى وحكمهم مسبق على أديان ومذاهب الآخرين، وبهذا يؤسس للتسامح بعِلم عالمٍ كالبيروني، غير المتوافق مع مبدأ «الفِرقة النَّاجية».
تقديرًا لمنزلة هذا العالم أنشد أحد السلاطين عند لقاء أبى الريحان: «العِلمُ مِن أشرف الولايات/ يأتيه كلُّ الورى ولا يُؤتى» (الحموي، نفسه)؛ لأن العلم «يعلو ولا يُعلى عليه»، وعلى أساسه يُبنى ما يُنشد مِن تسامح، تسامح التكافؤ بالمواطنة، لا بمعنى عفو القوى عن الضعيف.
نقلًا عن «الاتحاد» الإماراتية