رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

ننشر فصل من رواية "فتنة" لممدوح عبدالستار

رواية فتنة
رواية "فتنة"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
خص الروائي ممدوح عبدالستار، "البوابة نيوز" بفصل يحمل عنوان "ليل رحيله"، من روايته الجديدة "فتنة"، والتي ستصدر قريبا عن دار الخليج للصحافة والنشر بالأردن.
وفيما يلي نص الفصل:
تلصص "حامد"، وحمل شوقه وما استطاع. رأى"زكية"والأولاد، ورأى"فتوح"لا يشغله شاغل غير التقلب على الفراش.
ترك"حامد" كل شيء،عمله، بيته،عمره الذي أنفقه بين مزابل وحارات بلدته. وصقيع يحتل كيانه، ويأكل ما تبقى منه.
وقف"حامد" متجمدًا، وحائرًا..حين لمح بعض العيون الساهرة، وهى تتلصص، وتموت في تلصصها {فلتجعل- يا حامد- موتك أمام عينيك تشهده}
سار بطيئًا، ووأد قلبه الجافل تحت قدمه. وقد كانت رغبته عارمة في قضاء ليل رحيله مع البائعة. وكان يمكن له أن يبوح، ويظل قابعًا..مضاجعًا لها. الأبواب– الآن- في ليل رحيله مغلقة.
جفونه أرختْ ليله، وليل الناس؛ فتحسس جيبه، ومضى.
****
انكشف الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فانكشفتْ سوءته، وهو ملقى بجانب النيل..بجوار شجرة الصفصاف العتيقة، والأغصان تتدلى بدلال،تشرب بملء كفيها. درأ سوءته في بنطاله وبخفة حتى لا يلمحه شرطي؛ فيسحبه بفعل فاضح في شارع عمومي، والنيل شاهد، والأغصان يسمع كرعها، وصاحب الجلالة يتماوج.
ألقي"حامد" بجسده الثقيل الآن، وطارحه بالأحضان؛ فكان جزءًا منه. والماء يدغدغ جسده. اختبر قوته، وتعاوم ضد التيار.
سار "حامد" لا ينوي علي شيء..غير أن يتوه؛ فلا أحد يعرفه هنا. ميلاده الثاني متعثر، والوجه يغمره البياض. الآن ؛ يتقافز "حامد" كالضفدع في الشوارع التي اكتظتْ باللحم الأبيض والأسود، حتى لفحته الشمس بلهيبها، وكلّتْ قدماه من المسير، فاستباح لنفسه الجلوس أمام الدكاكين. يهشّه أصحاب الدكاكين، فيفرّ مرغمًا..يبحث عن مكان يضمه. هو نقطة متماوجة في الزحام. وحين ينتهي السوق اليومي سوف يسعد بالشوارع والسكينة. طاف الشوارع والميادين حتى العصر. جلس –مهادنًا جسده – يجرع الشاي.
القاهرة –واقفة على قدم وساق ليلًا ونهارًا – تغوص في الأنوار. والنيل يضم العاشقين في سلته، ويضيء مشاعرهم، ويجعل القبلات قصرًا للشوق، ومرفأ للحلم الساحر، والرضاب أشهى من العسل. هكذا تصور حامد.
لا شيء ثابت مع سيره. وهو يتجول؛ يقف– فقط– مذبوحًا أمام محلات الخمر، وتقاسيم الأنثى. لا أحد يعرفه، ولا يعرف أحدًا. والأجساد تسير إلى غايتها بسهولة.
هرب من الجوع بالفرجة. كان يمر أمام صناديق القمامة، ينظر للقطط التي كانت تنوء، وتتعارك. هو فقط كان ينظرها.
دار بعينيه على أحد يعرفه، والخيبة بادية على تقلصاته وحركاته. لمح"مطاوع"، هرول ناحيته، والتصق به.
في آخر الليل؛ والألسن قد تدبرتْ مكانًا للصمت؛ جرّه"مطاوع". وكانت الأجساد قد التصقتْ في البداية، وسرعان ما تخبطتْ أقدام"حامد"؛ فتأخر خطوتين.
تتأرجح حياة"حامد" الآن بين أقدام"مطاوع". الخطوة سرّ. والمسافة زمن للجسد الموجوع بفعل حكايته مع ناسه. جسد منسي في كل الأزمنة المعروفة.هو-حامد–فقط ينظر لتلك الأقدام المفلطحة، والحذاء الأسمر الكالح الذي ينقر أرض الإسفلت.
أمام الشقة؛ وقف"مطاوع". نقر شراعة الباب الذي ينفذ منه ضوء أصفر باهت. وكان"حامد" على بَسطّة السلم. بينه وبين"مطاوع" خمس درجات من الرخام متآكلة، ثم وضع"مطاوع" المفتاح، وخبط الباب بقدمه. كان جسمه داخل الشقة، "وحامد" ما زال يصعد الدرجات المتآكلة. أطلّ"مطاوع" برأسه الصغير الأصلع، وزعق فيه.
الشقة أربع غرف وصالة فسيحة. كراسي قديمة متناثرة هنا وهناك، وترابيزة صغيرة..مدورة تشغل مساحة الوسط. ارتعب"حامد" حين وجد ثلاثة وجوه مصوبة ناحيته. ألقى"مطاوع" التحية، رد الرجل والمرأة والفتاة بحسِّ واحد. "وحامد" يعلن ارتيابه بوقوفه كتمثال رمسيس. جذبه"مطاوع" من تاريخه حين حدف تحيته، وأغلق غرفته، ووضع يديه على فم"حامد"، وقال: -كل وقت وله آذان
لم ينزعج"حامد" {فليكن الأمر كما يكون}.
صباحًا؛ تسلل"حامد"إلى الحّمام. قابلته الفتاة ببسمة؛ فألقى عليها التحية منعًا للإحراج. وكانت تجتهد في عمل الفطور على ما يرام. مضغ لقيمات قليلة، ونزل مسرعًا. تفحص المكان جيدًا، وثبّتْ فوق الشقة سحابة آتية من بلدته.
ليلًا؛ تجشم"حامد"مشقة الاقتراب، وعينا الفتاة لا ترمش، فاصطنع خجلًا..حياءً من أمها"ومطاوع"، ربما تكون من عائلته الكريمة. قطع"مطاوع" حبل صمته:
- لولا أمنا روحية
وهو يضحك، وهى تضربه بدلال على صدره
- ونسرين..
قالت روحية قبل أن يكمل حديثة:
- أنت ابني يا مطاوع. ربنا عوضني بك
فأحسّ"حامد" بطمأنينة. أكملتْ كلامها، وغمزتْ بعينها "لمطاوع" الذي لمح ابتسامة كانت غائبة في عبّها. وارتعش جسد"نسرين". بعدها؛ ضمّتْ روحية"حامد" إلى العائلة كمطاوع، وابتسمتْ، فازداد "حامد" قربًا منها ومن"نسرين"، وعينا "نسرين" لا ترمش. تبسم"حامد". سألته "نسرين" عن اسمه وأشياء كثيرة أخرى. ردّ"حامد":
- أكل عيش
- عارفة..لكن
وضحكتْ"نسرين"، وحاولتْ مسك يده، وعيناها لا ترمش. ازداد"حامد" رعبًا من بدايته، وحاول أن يتخفى بالليل.
كل البدايات اختيار، "و حامد" فقط هو الذي يمسك النهايات بدون بداية له، يمسك بيديه الموت والحياة..لكنه لا يعرف.
ينزل "حامد" مبكرًا، ويعود متأخرًا، ومشاويره بين حانة ريش، والبستان، والأوبرا، والأتيلية، والوقوف بإجلال وتعظيم أمام محلات الخمر، والتشوف إلي صدور وأعجاز النساء. حين قابل"حامد""مطاوع" بالصدفة تعانقا جيدًا، وألقى أمامه مرارة العتاب. تأبطه"مطاوع". ومضيا معًا.
نطّ الدم، وصرختْ الفرحة في وجنتي روحية ونسرين فجأة، حين ألجمتهن مفاجأة حضورهما معًا، وعلي غير العادة.انزوى"مطاوع" بروحية يحدثها أحاديث جانبية. أشفق"حامد"على"نسرين"، والتصق بها. هو يخفف عنها. حين أحسّ بحرارة الالتصاق؛ مسك يديها برهبة، وخلسة. سحبته إلى غرفتها، وفى عينيها لهفة يعرفها، وصدرها المتماسك قد تقطّعتْ به الأسباب؛ فتبرز، وانتفخ. خلعتْ أرديتها إلا غلالة شفافة. أطلّ بجذعه، وتشوف صاحبه. يخاف أن يلمحه، أو تزجره روحية؛ فيكون مصيره الخرائب. "ونسرين" تتمدد رويدًا..رويدًا، والسحر الجميل يغلفها. قام جافلًا حين سمع خرير الماء. وهرول إلي غرفة صاحبه. أشار له"مطاوع" أن يستر عليهما بقفل الباب. لم يفعل، واستباح لنفسه فُرجة لم يرها من قبل. قام"مطاوع"، وهو يعنّف"حامد" وروحية تنفخ
- المجانية خلاص انتهتْ!
خطوته الثقيلة تناوله لنسرين بغلالتها الشفافة، وبسهولة. وماء النيل يتساقط من جبينه. والارتواء ظاهر وجلي في خد نسرين. قال لها"حامد":
- حرّصي من مطاوع
وتركها هابطًا إلي الشارع..تاركًا باب الشقة مفتوحًا.
عاد"حامد" إلي الغرفة يحمل لون الإسفلت، ولون ماركات العربات الملاكي وكانت"نسرين" علي أريكته منتظرة. داعبها، وقال في نفسه: { فليكن أمري معها كما تريد؛ مادامت تطيعني في نفسها بذلًا، وانقيادًا لأمري}
بعد ثلاث ليال، طلب"حامد" من "نسرين" أن تخلي سبيله، وتقبل عوضًا عنه آلاف الرجال – ولهم ثقل ونخوة– فلم ترض، وازدادتْ تمسكًا به. راوغها، واستكان جسده للنوم. هي بجواره تدلك صدره، وتدق في جسده أنثى مرغوبة لا تهدأ إلا بالوثوب عليها، ورشف ترياق ثغرها. طلب أن تهبه نفسها. وهبتها { ليس لي الآن مهرب} وطلب شهود زور على ذلك، فضحكتْ بدلال. قام يفتش عن شامتين التصقتا بجسمه. هذا آخر ما تبقى من آثار بلدته. عثر بصعوبة على برغوث وقملة، فحمدتْ"نسرين" الله، وقتلتهما حفاظًا على السرّ، وارتاحتْ نفسه قليلًا. لبس"حامد" نعله –ونعله جَمله وركوبته – حتى أتى النيل. والخيط الأبيض من الخيط الأسود قد انكشف؛ فانكشفتْ سوءته.
للمرة الثالثة؛ تخبره"نسرين" بحملها؛ فيمسك"حامد" جيب أبيها، وعقلها، ومشورة روحية؛ ويجهضها. تتمسك"نسرين" بعقاله {أعتقد أن لديها من الفراسة ما يؤهلها أن تصبح يومًا ما زوجتي} حاول"حامد" طرد هذا الخاطر. وبعد أن تعافت"نسرين"؛ أطلق في وجهها رغبة الرحيل.