الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"العظم" و"القرضاوي" وجهًا لوجه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ظهر صادق جلال العظم "١٩٣٤ ـ ٢٠١٦"، بعد سنوات طويلة مِن محاكمته ببيروت ١٩٦٩، مع يوسف القرضاوى، فى مناظرة تليفزيونية، ومع أن حديثه ليس فيه ما يتعرض للدين، إلا أن المتصلين كانوا يلقون السَّلام على القرضاوى ويتجاهلون العظم، مع الرَّد عليه بأغلظ الألفاظ وأعنفها، إشارة إلى إخراجه مِن الملة، حتى سمعت أحدهم قالها، ولم أتأكد حينها هل كان مازحًا أم جادًا! واصفًا المناظرة بالمبارزة، وبما لا يجوز التَّشبيه: «برز الإيمان كلُّه إلى الشِّرك كلِّه»! والحديث معروف فى بعض كتب التَّاريخ كـ«التَّأريخ المستبصر» لابن المُجَاور (ت ٦٩٠هـ). كان عنوان المناظرة «بين الدِّين والعلمانية». ومعلوم أن القرضاوى كإسلامى يعتبر العلمانية كفرًا، حسب كتابه «الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه»، وليس أكثر من تكفير العلمانية لدى الصحويين، مثل «العلمانية نشأتها وتطورها» لسفر الحوالى، وتلامذة سيد قطب (أعدم ١٩٦٦) وشقيقه محمد قطب (ت ٢٠١٤). 
لكن الذى اعتبر العظم الشرك كله والقرضاوى الإيمان كله، لم يفهم أن الجدل كان فى الفكر الدينى وليس الدِّين نفسه، وهؤلاء لا يريدون التمييز بين الفكر الدينى، طُلب من العظم، فى البرنامج المذكور، تعريف العلمانية فقال نصًا: «ترتيب سياسى واجتماعى، فى وقت واحد، وأنا هنا أُقدم التعريف للعلمانية ليس بالمطلق، فى كلِّ زمان ومكان، وإنما التَّعريف بالعلمانية بما يهمنا ببلداننا العربية بصورة خاصة، كترتيب سياسى ملائم لشروط العصر الذى نعيش فيه، أُعرف العَلمانية على أنها الحياد الإيجابى للدولة وأجهزتها وأدواتها ومؤسساتها إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفِرق والإثنيات الموجودة فى مجتمع ما، أو التى يتألف منها ذلك المجتمع، وأُشدد على الحياد الإيجابى، أى أنها دولة ترعى كل هذه الأديان والطوائف». ثم أتى على نموذج الهند حيث تعيش أقلية مسلمة كبيرة محمية بالعلمانية. ذلك مجمل الموضوع الذى دار حوله الجدل، والذى جعل القرضاوى الإيمان كلّه بينما العظم الشّرك كلّه! وأين هو الإيمان وأين الشرك مما دار بينهما؟! إنما جرى الحديث بين مؤمن بدولة دينية وغير مؤمن بها، جدل فى أفكار بشرية لا صلة له بإيمان أو شرك. أكثر اللقاءات أو المقابلات التى جرت للعظم يبرز فيها هذا التصور «إيمان وشرك». كانت البداية بكتابه «نقد الفكر الدينى» (١٩٦٩)، والرجل أثاره مشهد كأن مبتدعه أراد السخرية بضحايا حرب ١٩٦٧، وتشرد الفلسطينيين من أرضهم، عندما كتبت الصُّحف المصرية واللبنانية آنذاك مبشرةً بخروج السيدة مريم لتزيل آثار الهزيمة بمعجزة، فاعتبر ما جاء فى «نقد الفكر الدينى» عن هذا الموضوع طعنًا بالدين، ثم أضيف نقاشه لقضية «إبليس»، وإشارته إلى الذين يحاولون تكبيل القرآن بنظريات علمية، وكان يناقش كتاب يوسف مروّة «الإسلام تجاه تحديات الحياة المعاصرة»، الذى ميز آيات فى الرياضيات وأخرى فى النسبية وعلم الجيولوجيا.. ما اعتبره العظم «توفيقًا تعسفيًا محضًا». قُدم العظم للمحاكمة بتهمة ازدراء الدينين المسيحى والإسلامى معًا، فنفى أن يكون ما كتبه موجهًا للعقائد الدينية، بقدر ما كان للفكر الدينى، بما يخص العقل لا العقيدة. نسى المحرضون، على شاكلة من اعتبره «الشرك كله»، أن الشهرستانى (ت ٥٤٨هـ) جعل المقدمة الثالثة من كتابه «الملل والنِّحل»، وكان شافعى الفقه أشعرى العقيدة، حوارًا بين «إبليس» والذات الإلهية، ولم يرده أحد، وأن شقيق الإمام أبى حامد الغزالى (ت ٥٠٥هـ)، محمد الغزالى (ت ٥٢٠هـ)، وكان يُدرس فى المدرسة النَّظامية ببغداد، له رأى مختلف فى هذه القضية (ابن الجوزى، المنتظم). بمعنى أن الأمر كان مطروقًا، وفى تلك العهود لا فى هذا العصر الذى مِن المفروض أن يكون العقل فيه محميًا. أُغلقت القضية ضد العظم، وكان حينها كمال جنبلاط (اغتيل ١٩٧٧) وزيرًا للداخلية، فحاور العظم فى مكتبه حوار الثقافة، كذلك استضافه مفتى طرابلس نديم الجسر (ت ١٩٨٠) فى ندوة عن كتابه وبحضور موسى الصدر (قتل ١٩٧٨)، من دون اعتباره «الشرك كلَّه». أما هو فعندما أُدخل المعتقل وانتزعت نظارته منه فطلب نسخة من القرآن، فكيف يقرؤها بدون النظارات، فسقط فى أيديهم وأعادوها له «حديث تليفزيونى مع العظم». رحل العظم، وحتى آخر لقاء به (٢٠١٣)، لم يتراجع فى نقد الفكر الملتبس، ورجالاته الذين مازالوا يراكمون الأفكار فى إخضاع الدين للسياسة. أما الدين كعقيدة فلم يمسه العظم بسوء. أنشد القرضاوى فى تلك المناظرة: «سارت مشرقةً وسرتُ مغرباً، شتانِ بين مشرقٍ ومغربِ» (الصَّفدى، الوافى بالوفيات)، وهو بيتٌ أكثرَ الأولون مِن إنشاده ولم يُعرف قائله، لكنَّ الأحقَ بالشكوى من التّباعد هو ابن دمشق، فهو يريد إسلام الحرية لا الاستبداد الدينى والمحاكمات على الظن والترصد!.
نقلًا عن «الاتحاد» الإماراتية