الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

شعبويون وجهلة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا استعدنا، بقدر من التصرف، عبارة لليون تروتسكى عن الفاشية، أمكن القول إن الحداثة المعولمة ابتلعت فى العقود الثلاثة الماضية الشيء الكثير، وهى ابتلعته بسرعة، وعلى نحو غير عادل. ولأن الأمر هكذا، فإنها لم تهضم هذا الكثير الذى ابتلعته، بل تقيأتْ بعضه. والقيء هو اليوم دونالد ترامب وأشباهه فى أوروبا.
ما وصفه تروتسكى فى الثلاثينيات يشبه، ولا يشبه، ما يعاش اليوم مما لا يزال تعريفه ينجم عن المقارنة بالفاشيات الكلاسيكية أكثر مما يقوم بذاته كحالة مستقلة.
فليس ثمة، بين شعبويى يومنا، تيار عريض ومتماسك يرفض الديمقراطية وتقنيتها الانتخابية، أو يعد بإلغائها حال الوصول إلى السلطة. صحيح أن ثمة أفرادًا محيطين بترامب يشككون بـ«عدالية الديمقراطية» ويتهمونها بـ«تحكيم الأغبياء والجهلة»، إلا أن أصوات هؤلاء لا تُسمع قياسًا بأصوات الذين يعلنون التمسك بها والحكم باسمها. وهذا من دون استبعاد المحاولات التى قد تؤول إلى التحكم بالعملية الديمقراطية والمبالغة فى ضبطها سلطويًا. ويُخشى هنا خصوصًا تضخم الميل الدارج اليوم إلى هجاء «المؤسسة»، بوصفه تذكيرًا بهجاء «فساد الأحزاب» الذى شُكّل فى العقود الماضية تمهيدًا ضروريًا لإلغاء السياسة. ولا يُنسى أن دونالد ترامب نفسه سبق له، قبل الانتخابات، أن حذر من احتمال تزويرها. وهو المنطق الذى يفضى، فى حال شيوعه، إلى إضعاف الثقة بالمؤسسات كمصدر تحكيم أخير، والتشكيك تاليًا بأحد أبرز روابط المواطنية وأهمها.
كذلك توجد فى الولايات المتحدة ميليشيات متفرقة تزعم التفوق الأبيض، إلا أن الشعبوية الراهنة تفتقر إلى تنظيمات شبه عسكرية موازية للسلطة وجيشها على نطاق وطنى، كـ«قوات العاصفة» النازية وسواها. ولئن وُجد لا ساميون فى البيئات الشعبوية الناهضة اليوم، فى الولايات المتحدة وأوروبا، فمن المستحيل تصور محرقة على غرار ما عرفته الأربعينيات.
وعلى صعيد آخر فإن الذى يفكر بـ«عبادة الدولة» وفقًا لتعاليم الفاشية الإيطالية، يواجهه راهنًا، أقله فى الشعبوية الأمريكية، عداءٌ حاد للدولة ورغبة فى محاصرتها والحد من دورها. وغنى عن القول إن أثر الليبرتارية فى تشكيل «اليمين البديل» فى أمريكا أقوى من أثر التيارات الفكرية الأخرى.
طبعًا يتكرر فى زمننا لقاء الأزمة الاقتصادية والفكر الرجعى، كما يتكرر استحضار الفائض القومى الهائج، وإن بات عنصره الثقافى يغلب على عنصره العرقى المحض. لكنْ من دون أن تختفى جيوبٌ عنصرية الهوى والعقيدة، ورموز سيقيم بعضها فى البيت الأبيض، قريبًا من الرئيس، لا يزال الكلام عن «أيديولوجيا عنصرية» متماسكة مستبعدًا جدًا، كما هو مستبعد شيوع أدبياتها التى لا تزال فى بعض البلدان موضع تجريم.
كذلك تتشخص الحركات الراهنة فى زعيم معصوم، وإن كانت المؤسسات الحالية أشد تقييدًا لعلاقته المباشرة بـ«الشعب» و«الجماهير». أما استبعاد المحرقة فلا يلغى عذابات مهولة قد يعانيها اللاجئون والمهاجرون والمهمشون والأقليات الإيروسية، فضلًا عن انتكاسات تشريعية تطال المرأة وقضايا الاختلاف تكون المحكمة العليا فى أمريكا رافعتها وحاملتها. ودائمًا ستتغذى الوجهة هذه على رفض مبدأ «حقوق الإنسان»، بل على رفض وجود «الإنسان» نفسه بوصفه قيمة كونية عابرة للانتماءات والهويات الجزئية.
وما من شك فى أن جوًا لا عقلانيًا سينتعش حاولت اللغة أن تواكبه بتعبير «ما بعد الحقيقة» المستجد. بيد أن وسائط التواصل الاجتماعى، التى اضطلعت بدور سلبى كثر تناوله مؤخرًا، قابلة أيضًا أن تضطلع بدور رقابى وفاضح لم يكن متاحًا من قبل.
لكنْ من دون أن يقع المرء فى التقليل من الأخطار والمصاعب التى تداهم عالمنا، تبعًا للصعود الشعبوى هذا، يُرجح ألا ترتسم الثورات والحروب أفقًا للتغيير، بل أن يأتى الأمر، إذا أتى، نتيجة لمقاومات ديمقراطية ومدنية لا يملك أصحابها إلا أن يقاوموا.
نقلًا عن الحياة اللندنية