الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

بعد 500 عام على "الإصلاح الكنسي".. هل نتعلم من التجربة الأوروبية؟

الكنائس الإنجيلية
الكنائس الإنجيلية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تستعد الكنائس الإنجيلية للاحتفال بمرور ٥٠٠ سنة على مرور حركة الإصلاح الدينى التي اندلعت فى عام ١٥١٧ ميلادية بقيادة مارتن لوثر الكاهن والمعلم الكاثوليكى.
الحركة التى غيرت خريطة التاريخ الدينى والاجتماعى والسياسى فى الشرق والغرب. وتعتبر من أكبر وأبرز معالم التاريخ التى لا تزال نتائجها مستمرة حتى اليوم. 
منذ القرن الخامس الميلادى، بدأ الصراع ينخر فى عظام العلاقة بين روما والقسطنطينية، ليساعد على التآكل الذى انفصم عراه كاملًا، فى عام ١٢٠٤م. وكانت أسباب القطيعة بينهما داخلية، كالاختلافات اللاهوتية، وأولوية البابا. إلا أن دارسى التاريخ يعرفون أن الصراع كان معقدًا وليس بهذه البساطة، فقد تداخلت فيه اختلافات اللغة «اللاتينية واليونانية»، والثقافة بين الشرق والغرب، والنزاعات السياسية بين من يتحكم: القسطنطينية أم روما؟ علاوة على الأهواء الشعبية.
وابتدأت عصور الظلام بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة ٤٧٦ م على أيدي الجرمان «البرابرة»، وقد عززت وصول البرابرة، الثورات التى قام بها الفلاحون برفضهم قمع الإمبراطورية المالى، والإدارى والبوليسى، وبالتالى فقد رحبوا بغزاتهم، بالإضافة إلى الزحف الإسلامى وبعض القبائل الأخرى فى القرنين السابع والثامن الميلادى. وبسبب الغزوات المتنوعة، كانت أوروبا مسرحًا لانقلابات جديدة؟
ومن الجلى فى تاريخ أوروبا، أن العصر الوسيط المظلم قد وُلد فى قلب الإمبراطورية الرومانية. فقد كان السيف والجوع والوباء والغزاة، وابلًا من الكوارث افتتحت العصر الوسيط الأول واجتاحته كله. 
واجتازت أوروبا أقسى المحن على مدار خمسة قرون من الخامس حتى القرن العاشر الميلادى، من ضعف سياسى، ووهن عسكرى وتشتت فكرى، وانحطاط أخلاقى، ومجاعة اقتصادية وتدنٍ روحى. كل هذا ساهمت فيه حركة الغزاة والتوترات على كل الأصعدة. 
تفككت أوروبا فى القرن الخامس، بسب ضياع معظم أجزائها فى أيدى القوى الخارجية من البرابرة وغيرهم. أصبح الأمل الوحيد فى الكنيسة التى التف حولها الإيطاليون طوال القرون التالية، ورأوا فيها الزعيم والسند الكفيلين بحمايتهم. وقد قامت ست ممالك جرمانية فى غرب أوروبا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية.
تعتبر الفترة ما بين القرن الخامس إلى الحادى عشر الميلادى، عصور الظلام فى أوروبا، حيث كان مستوى التعليم والثقافة خلالها فى غاية الانحطاط، وكانت المعلومات الوثائقية حول تاريخ هذه الفترة قليلة ومتأثرة بالخرافات والأساطير، علاوة على الأخلاق. 
من الناحية الاقتصادية فإن الإمبراطورية الرومانية، كانت تشكو أعوام التدهور الاقتصادى قبل أن تقوم جموع الجرمان بغزو أراضيها، ذلك الغزو الذى زاد الطين بلة لما صحبه من حروب نتج عنها التدمير والخراب، وتوقفت التجارة والصناعة والزراعة.
لكن الجدير بالملاحظة أنه رغم الفوضى والمخاطر والانهيارات المتلاحقة والنكسات المؤلمة لأوروبا، عرفت الكنيسة أن تستمر وتمارس تقاليد أورثها إياها أساقفة الإمبراطورية المسيحية ومؤسسو حياة الرهبنة «النسكية».
كان البرابرة متواجدين بقوة لكن الحياة لم تتوقف، فقد كان لبعض آباء الكنيسة دور فى الخدمة والدفع إلى الأمام. وكانت الجهود المبذولة فى إرساء الحضارة القديمة فيما يشبه نهضة مشبّعة بالصبغة المسيحية. 
لم تنجح المحاولات فى استعادة عافية أوروبا، لكنها احتفظت بروح الإيمان فى زمن الأزمات. ويعود هذا الإنجاز إلى شخصيات متميزة حافظت على حيوية الإيمان فى أقسى الظروف. ودارس التاريخ يعرف أن فى تلك القرون الخمسة العسيرة، ولدت الحضارة المسيحية بكل ظلالها وأضوائها.
إنه تاريخ ثرى بما فيه من مفارقات بين الهزيمة والانتصار لأوروبا والكنيسة. ولكى نتتبع هذا التاريخ، يود الكاتب أن يضع خطوطًا عريضة، فتفاصيل التاريخ كثيرة، وغنية تفرد لها مجلدات، فلا يمكن تغطيتها فى مقالات. بل سأجتهد أن أسرد الخطوط الرئيسية منذ القرن الخامس الميلادى كمقدمة للإصلاح الذى بدأ يطل علينا فى القرن العاشر، ووصل إلى ذروته فى القرن السادس عشر، وامتد حتى السابع عشر بقيادة الملهم والشجاع مارتن لوثر. 
إنه التاريخ الذى شكل وصاغ الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية فى أوروبا بل والعالم كله حتى يومنا هذا. 
عصور الظلام: يُعَد القرن الخامس الميلادى بمثابة بداية لتاريخ العصور الوسطى، حيث كانت الإمبراطورية الرومانية، فى ذلك الوقت، ضعيفة جدًا، لدرجة أن القبائل الجرمانية كانت قادرة على السيطرة عليها. 
وكانت القرون من الخامس حتى السابع أكثر إظلامًا على أوروبا. فمع نهايَة القرن الخامس، تقسّمت الإمبراطوريّة الغربيّة إلى فرقٍ سياسيّة صغيرة محكومَة من القبائِل البربرية فى بدايات القرن. كما عانت أوروبا الفقر وقلة السكان فى الحقبة الواقعة ما بين القرنين الخامس والعاشر الميلاديين، لقلة المساحات المزروعة بسبب كثافة الغابات ولوجود المستنقعات، كما أدت الأمراض والمجاعات والحروب وانخفاض معدل المواليد إلى عدم زيادة السكان. هذا كله ألهى المجتمع الأوروبى وحتى النخبة المثقفة عن الإنتاج الفكرى والثقافى. 
رغم الوصف السابق عن العصور الوسطى، إلا أنها لم تكن كلها ظلامية، وإنما كانت فيها بعض المنارات، أو بقع الضوء الخافت لكنها بشكل عام لم تكن مستنيرة، فاستنارة بعض العباقرة لا تعنى استنارة عموم الشعب.
كانت البدايات صعبة جدًا فى القرن السادس فى ظل فوضى سياسية وانتشار الأوبئة والمجاعات، ظهر رجل تقى ومثقف من أسرة أرستقراطية متدينة، وهو غريغوريوس الكبير. يعتبر غريغوريوس الكبير أول راهب ينصب أسقفًا على روما، وهو من التهب قلبه بحسب ظروف العصر وإمكانية الاهتمام بالكنيسة، فقام بعدة شئون بخصوص روما والكنيسة.
١ ـ اهتم جدًا برفع المستوى الروحى للرهبان ورجال الإكليروس، ونظم الحياة الرهبانية.
٢ ـ منع الكهنة من قبول أى أجر مقابل خدماتهم، وطلب من الكنيسة أن ترد الممتلكات التى نالها فى ظروف متشكك فيها. 
٣ ـ حرّم عادة دفع الأساقفة مبالغ من المال كعادة سنوية للبابا، وأصدر قرارًا مجمعيًا بذلك سنة ٥٩٥م. 
٤ ـ شجع الإرساليات واهتم بها. قام بإرسال بعثة عددها ٤٠٠ راهب من ديره بقيادة الراهب أوغسطينوس سنة ٥٩٦ م. لإعادة نشر الإيمان فى بريطانيا، بعد أن كادت المسيحية تتلاشى على يد السكسون الذين غزوا بريطانيا فى نهاية القرن الخامس.
٥ ـ اهتم بالعمل الاجتماعى كأولوية، فقد تعامل غريغوريوس بجدية فى مسألة نقص الموارد، والتشويش الذى ساد الشعب، ونقص الطعام، ونزح فيض من اللاجئين إلى روما، اهتم بإشباع احتياجات الشعب. 
ربما نعتبر أن هذا دور الكنيسة الطبيعى، لكنه كان كعلامة غيث قادم من العصور المظلمة على إصلاح أكبر، سيكون فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر، ثم تكتمل صورته فى القرن السادس عشر.
مات غريغوريوس الكبير، وتوقفت الإرساليات، وزادت الأحوال سوءًا فالقسم الأكبر من الظلام الذى غشى العالم المسيحى هو الأخلاق. فعلى المدى الطويل، تأثر الأساقفة والإكليروس بمجتمع يقر بمبدأ الانتقام والحرب الخاصة. 
أما عن الجزء الشمالى لأوروبا، فى نهاية القرن السادس، فقد كانت الكنيسة فى أيرلندا فى حاجة إلى ولادة ثانية، بفضل الزخم الجديد الذى زودها إياه رهبان أيرلندا. 
الزحم من خلال نشاط الرهبان الأيرلنديين الذى لا يكل، كان دليلًا على وفرة الكنوز الروحية التى جمعتها كنيسة أيرلندا البعيدة، ورغم انقطاعها عن روما لمدة طويلة، إلا أنها استطاعت أن تستخدم تلك الكنوز، طوال القرن السابع، فى إنعاش قوى العالم المسيحى الأوروبى المنحطة.
أما فى القرن الثامن فقد ظهر نجم جديد للإصلاح، وهو شارمان، والمعروف باسم كارل الكبير، وكان ملكًا على الفرنجة منذ عام ٧٧١م. وهو من القبيلة الجرمانية التى تقع فى الوقت الحاضر فى بلجيكا، فرنسا، لوكسمبورج، وهولندا وألمانيا الغربية. وهو الابن الأكبر للملك بيبين الثالث، مؤسس حكم أسرة الكارولنجيين. ويعتبر أول إمبراطور رومانى. توّجه الملك ليو الثالث شارلمان إمبراطورًا رومانيًا فى ٢٥ ديسمبر ٨٠٠م، فى كاتدرائية القديس بطرس فى روما.
كان شارلمان دبلوماسيًا بارعًا، بل صاحب عقل متوقد لنهضة أوروبا. فقد هال شارلمان انتشار الأمية فى أيامه حتى لا يكاد أحد يعرف القراءة والكتابة غير رجال الدين، كما هاله انعدام التعليم بين الطبقات الدنيا من هذه الطائفة، فاستدعى علماء من الأجانب لإعادة مدارس فرنسا إلى سابق عهدها. 
وكان أول اهتمامات شارلمان هى النهضة الثقافية والقانونية، والتى سميت بالنهضة الكارولنجية. فقد جعل من مدرسة القصر نموذجًا ثقافيًا لأوروبا الغربية. وقد أُرسل لكل البلدان لجمع المخطوطات الترجمة اللاتينية المتداولة للكتاب المقدس التى قام بها جيروم أحد آباء الكنيسة الآتين، ومن الكتب اللاتينية القديمة، بحيث تكون أكثر دقة من النسخ المتداولة وقتئذ. والتى من خلالها أصبحت مدرسة القصر مركزًا علميًا لمراجعة المخطوطات وإعادة نسخها، كما أضحت مركزًا لإصلاح نظم التربية إصلاحًا عم جميع المملكة. 
وقد أسس شارلمان مخزونًا كبيرًا من خلال التعليم والثقافة والعلوم، ولعب دورًا رئيسيًا فى الحفاظ على الكثير من التراث الأدبى فى روما. وبالرغم من أنه بالكاد استطاع كتابة اسمه، إلا أنه كان ضليعًا فى الرياضيات وعلم الفلك وتكلّم عدّة لغات. أنشأ مدارس لتدريب النبلاء الشبان على خدمة الإمبراطورية. يعدُّ شارلمان واحدًا من أعظم الملوك فى التاريخ. فلم تكن النهضة الثقافية والقانونية فى أيامه فقط، بل بلغت النهضة الكارولنجية قمة مجدها من بعده، وذلك من خلال تلاميذ عباقرة وأكبر علماء عصرهم. 
ومن هنا يمكن أن نستنتج أن النهضة الكارولنجية التى بدأها شارلمان، واستمرت بعض الوقت فى عصر خلفائه، يحق لها أن تكون تمهيدًا لنهضة القرن الثانى عشر ونهضة القرن الخامس عشر. فهل لنا أن نقرأ التاريخ وننقب بين صفحاته؟ وهذا ما سوف أستكمله فى المقال القادم، لنتعرف على جذور الإصلاح الذى بدأ من قلب عصور الظلام المبكرة.