الخميس 23 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

كانت كل حياتي.. الصحافة "٢-٣"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى دنيا الصحافة ليس سهلًا أن تقول «أنا تلميذ مصطفى أمين». ذلك أنك ولا بد بهذه العبارة سوف تضع نفسك فى منطقة عجيبة من المتناقضات والإثارة. تمامًا بحجم تاريخ متناقضات مدرسة «مصطفى وعلى أمين». والتى لا يجرؤ أحد على الزعم بأنها لم تؤثر - وما زالت - فى الصحافة العربية وليس المصرية فقط.
وقد يكون من الصعب أن يتحدث التلميذ عن أستاذه صراحة. إذ يظل التلميذ تلميذا والأستاذ أستاذا. لكن أجمل الدروس وأولها التى تعلمتها على يدى أستاذى مصطفى أمين كانت أن الصحافة الحقة فريق عمل. لكل أحد فيها دوره المهم حتى ولو كان دورًا هامشيًا.
عندما التقيته لأول مرة. كان الرئيس الراحل أنور السادات قد أفرج عنه بعد أن ظل فى السجن طوال تسع سنوات. قام خلالها بكتابة العديد من الكتب التى كانت أشهرها سلسلة كتبه «سنة أولى وثانية وثالثة سجن» إلخ. أهدانى مصطفى أمين نسخًا من هذه الكتب مع إهداء بخط يده يقول فيه «إلى زميلى وصديقى محمود...». وقد تعجبت كثيرًا من أن يعتبرنى الصحفى العملاق زميلًا له. رغم أننى كنت وقتها صحفيًا تحت التمرين.
■ ■ ■
روح الدعابة وهذه الضحكة المجلجلة العميقة ذلك شىء يتميز به مصطفى أمين. وإن كانت ليست ميزته الوحيدة. لكنك إن لم تكن صحفيًا وإذا كنت لم تلتق به من قبل. يمكنك أن تكتشف ذلك إذا ذهبت للقائه لسبب أو آخر. الرجل طوال عمره كان يستقبل كل يوم عشرات من نماذج البشر المختلفة. هذا غير أصحاب الحاجات والشكاوى الذين ينتظرون حضوره كل صباح. فى مشهد يحفظه جيدًا شارع الصحافة. حين يهبط من سيارته السوداء فيجدهم فى انتظاره وكل منهم يحمل ورقة كتب فيها مشكلته.
لكن زائر مصطفى أمين لا بد أولًا أن يصعد إلى مكتبه الذى لم يتغير منذ سنوات طويلة فى الطابق التاسع بدار «أخبار اليوم». ثم تلتقى فى حجرة السكرتارية رجلًا متوسط القامة يمتلئ حيوية ونشاطًا. هو الأستاذ «كرم» مدير مكتب مصطفى أمين. والذى كان فى يوم من الأيام زميلًا له فى السجن!.
وحين تخطو إلى مكتب عملاق الصحافة المصرية سوف تلاحظ من الوهلة الأولى أن الرجل عملاق البنية فعلًا، هو يجلس إلى مكتبه فى صدر الغرفة وأمامه أوراقه البيضاء والكتب على جانبى المكتب الذى تتوسطه «محبرة» قديمة، لأن مصطفى أمين ما زال وفيًا للقلم الحبر الذى تخلى عنه الناس. وإذا شاءت الظروف أن تشاهده وهو يكتب زاويته الشهيرة «فكرة»، وقد كانت فيما مضى زاوية توأمه الراحل على أمين. وواصل مصطفى أمين كتابتها بعد فاة على أمين. قد تتعجب عندما تجده يضع القلم على الورقة ثم ينطلق فى الكتابة مرة واحدة. لا يتوقف إلا عندما يضع النقطة الأخيرة فى نهاية المقال.
وقد تحولت «فكرة» إلى كتاب مهم من كتب مصطفى أمين الكثيرة، وهى الزاوية التى كان ينتظرها ملايين المصريين كل صباح، يتنفسون من خلال سطورها الحرية والجرأة اللتين يكتب بهما مصطفى أمين، الذى تعرض من خلالها وطوال سنوات لقضايا الشعب المصرى والعربى بكل جسارة. وفى يوم من الأيام تسببت «فكرة» واحدة فى أن يمنع الرئيس الراحل السادات مصطفى أمين من كتابة «فكرة» لأكثر من ٤٠ يومًا حين كتب عن «هرولة» البعض للانضمام إلى حزب الحكومة أيامها.
وإذا كان مصطفى أمين قد علمنى فى بداية عملى الصحفى كيف أقرأ «بالمقلوب» إذا جلست إلى مكتب أحد المصادر لعلنى أجد فى أوراقه خبرًا مهمًا لجريدتى، فإنه بالقطع لم يعلمنى - ولم يعلم - أننى أقوم بسرقة مقال «فكرة» الذى يكتبه بخط يده بعد أن يذهب إلى المطبعة. واحتفظ بعدد كبير من مقالاته مكتوبة بخط يده.
وكان فيما مضى يمارس دعاباته معى وأنا محرر تحت التمرين فيمسك بورقة خالية. ويقول لى:
انظر هذه الورقة الخالية لا تساوى شيئا غير ثمنها.. فإذا كتب عليها مصطفى أمين تساوى الكثير وتذهب إلى المطابع فورًا.. إذا كتب عليها واحد مثل حضرتك.. تذهب الورقة فورًا إلى سلة المهملات.
ثم ينطلق فى نوبة ضحكه إياها.. «هاها.. هاها» !
■ ■ ■
وقد تعلمت الكثير من مصطفى أمين. لكنى ورثت عنه كراهية الظلم والظالمين، كنت ذات يوم قد سألته مبهورًا بشجاعته وجرأته، ودفاعه المستميت عن الحق والحرية الديمقراطية.
مصطفى بك.. هل كنت هكذا فيما مضى؟
أغمض الرجل الكبير عينيه برهة وكأنه يستعرض تاريخ حياته.
وارتجف قلبى من أمانته حين وجدته يقول لى بمنتهى البساطة: لا.. الزمن علمنى!
لكنى أزعم أنه كان هناك مدرس آخر لمصطفى أمين غير الزمن، وهو السجن، يمكننى أن أزعم أن مصطفى أمين آخر ولد فى ليمان طرة. فقد كان مدخنًا رهيبًا قبل سجنه. وحين وجد أن التدخين سوف يكون نقطة ضعفه فى السجن وقد يستغلها أحد. توقف عن التدخين فورا.
وما زلت حتى اليوم أحتفظ بصورة معبرة لمصطفى أمين فى زنزانته بليمان طره. كان الرئيس السادات فى منتصف السبعينيات قد فكر فى هدم الليمان الشهير وتحويله إلى متحف، وذهب بنفسه ليضرب أول معول هدم فى الليمان، وذهب معه مصطفى أمين الذى طلب أن يرى الزنزانة التى كان محبوسًا فيها.
ووقفت أرقبه وهو يفتح باب الزنزانة ويخطو داخلها فى وجل. ثم أشار إلى نافذة ضيقة أشبه «بالكوة» فى سقف الزنزانة.
وقال لى: من هنا.. كنت أقوم بتهريب كتبى ورواياتى عندما كانوا يداهمون الزنزانة فى تفتيش مفاجئ!
وعندما طلب المصور الفنان فاروق إبراهيم من مصطفى أمين أن يلتقط له صورة فوتوغرافية داخل الزنزانة، وحاول فاروق أن يغلق الباب قليلًا على مصطفى أمين حتى تبدو الصورة معبرة، فوجئت بمصطفى أمين يندفع فى خوف نحو الباب، كأنه يخشى أن يغلق عليه باب الزنزانة مرة أخرى. وهو يصيح فى فاروق: افتح.. افتح!