الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"ترحال" وفاء عوض.. إطلالة جديدة من نافذة المجلس الأعلى للثقافة

ترحال وفاء عوض
ترحال وفاء عوض
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
صدر حديثاً عن المجلس الاعلى للثقافة كتاب الاديبة والكاتبة الصحفية وفاء عوض، نائب رئيس تحرير مجلة الاذاعة والتليفزيون تحت عنوان "ترحال".
وتشرح الكاتبة في مقدمة اصدارها "الرحالة" واقع العوالم التي ابحرت فيها، ورصدت فيه انفعالاتها بكل ما وقعت عليه عيناها، وما استشعره وجدانها، إذ تقول: كلما مررت على مكان ما.. مدينة ما وقفت أتأمل لوحة جلست أتابع شريط سينما أو حتى أستمع الى نشرة اخبار، ينتابنى إحساس عجيب بأنني أمتزج بهم مثل عطر زهرة أو نسمة هواء.. وما أن ابدأ في كتابة انطباعي, حتى تتخللني طاقة غريبة مأخوذة بالمكان الذى يدور حوله الحدث، طاقة غامضة تدفعني نحو إعادة خلق الجغرافيا والتاريخ بعناصر أظنها تختلف عن أدوات وآليات الرحالة السابقين.
وكأن المكان يستمع الى أفكاري.. ويدفعني لتأليف الكون على مزاجي، فالمكان وعلاقته بالبشر بالنسبة لي، طالما كان هاجساً اساسياً وحجر زاوية في بناء النص موضوع المقالة.. فمن خلال المكان يولد لدى إحساس عجيب بحركة الزمن واللغة وغيرها من مكونات النص, وطالما سألت نفسى لماذا أنا مهمومة هكذا بالمكان؟..
وتابعت عوض في مقدمة اصدارها الذي عُرض مؤخراً في معرض القاهرة الدولي للكتاب: ربما كان غياب المكان الأم في طفولتي، وفى فترة مبكرة من حياتي قد لعب دوراً كبيراً في محاولتي اللا شعورية لاستعادته في النص والسماح له بالهيمنة على مساحة كبيرة في الكثير من كتبي ومقالاتي حتى النقدية منها اذ اصبح المكان يمثل بنية اساسية في تجربتي، فهذا المكان الام الغائب والمتصدع في ذاكرتي بفعل "الحرب والهجرة" التي سرقته وبدلته مرات ومرات.. وغير المستقر في حاضري بحكم ارتحالي الإرادي إلى مدن بديلة، لاشك أنه أثر بشكل كبير على تجربتي الشخصية وإحساسي بالمكان في كل شيء من حولي.
أتذكر يوم سألني أحد الأصدقاء: هل ستستقرين أخيراً؟
لم أعرف بماذا أجيبه, أأقول له اننى وددت لو أستقر كجذر نخلة في أرضى, ولكن كيف، وقد عبأوا شراييني بمصل الترحال منذ كنت طفلة صغيرة حملوها فوق شاحنات التهجير بعد نكسة 67 م.. جردوها من أولاد الجيران وسلالم بيتها القديم وعروستها القماش علموها مبكراً كيف تترك فراشها. هكذا وترحل!
قالوا لها: "الحرب ح تقوم، وبورسعيد ح تتنضرب.. ولازم نهاجر"
يعنى أيه هجرة؟ يعنى أيه حرب؟ يعنى أيه خوف؟..
وقتها لم أدرك لهذه الكلمات معنى.. وكيف لي أن أدرك؟ وقد ولدت على صوت انفجار القذائف.. وعدوت حبواً ناحية الشرفة لأراقب أسراب الطائرات الحربية في سماء مدينتنا الصغيرة.. كنت أبتسم لها بعيون طفلة..
إذن كيف لي أن أفهم معنى الخوف وقد قضيت ساعات طويلة في حضن امى في الملاجئ نختبئ من الغارات. أذكر أننى فقط كنت أخشى الظلمة.. وعندما يطلقون صفارة الأمان ينتابني فرح عجيب..اترك حضن أمي لأهرول خارج الملجأ الهو مع اولاد الجيران فوق "الأشولة" الأسمنتية، نبتسم لجمجمة مرسومة فوق الحيطان ولا ندرك لكلمة "خطر" المكتوبة تحتها معنى.
ومن يومها.. يوم أن زجوا بنا أنا واخواتى الأربعة وأبى وأمي فوق شاحنات التهجير, وانا فقط لم أدمن لعبة إحصاء عدد أعمدة النور وأسلاك الهاتف وهى تعدو لاهثة خلف الشاحنات والسيارات, وأحن للنوم على انات المحركات، ولكنني عشقت الترحال نفسه، ولم أدر أننى ماعشقت إلا سراباً، ساظل ماحييت أركض خلفه تقودني نزعة جهنمية إلى اكتشاف مجهول؛ اكتشاف مدينة جديدة، إكتشاف ناس لم أحل طلاسم لغتهم بعد..
أجل أعشق الترحال، الأمكنة والفضاءات والمدن والشوارع طالما كانوا هاجساً يراودني منذ الوهلة الأولي‏ التي بدأت اخطو فيها فوق بلاط صاحبة الجلالة، والتى توجتها قبل عشر سنوات بكتاب "فى العراق ..الملائكة تموت" ثم كتاب "ايطاليا التي احببتها".. وأخيرا صفحة "ترحال" الاسبوعية بمجلة الاذاعة والتليفزيون.. والتي إعتمدت فيها علي كسر الحدود، ليس فقط المكانية, ولكن أيضا الخيالية‏.. فقد ضبطت نفسى أسير وراء الخيال في بعض أشكاله خاصة الاجتماعية التي عاشت بيننا وعشنا داخلها‏ السينما‏.. التليفزيون‏. الذكريات‏‏..‏ التاريخ. البشر حيث يصبح الخيال عندي ليس فقط مكانا للحرية، ولكنه أيضا مكان اللقاء بآخرين.‏ كما أن الأماكن باعتبارها تحمل شحنة حنين تجعل من الكتابة فيها نوعاً من التجربة أو السيرة الذاتية، وربما لذلك رأى زميلى "ياسر رزق" رئيس التحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون حينئذ، وصاحب فكرة اسم "ترحال" وضع صورة داخل النص، بحيث يشحن كل منهما الآخر بمعان أكثر عمقا‏.‏

ولكن رغم اعتمادي في ترحالي على أهم أداتين من أدوات الصحافة، وهما: المقالة والصورة الفوتوغرافية‏، إلا أننى ظللت قابضة علي مكان ما بين الصحافة والأدب‏، منحازة بوضوح لفكرة المقال الأدبي النابع من المكان‏ والرحلة بكافة صورها .
كتاب "ترحال "الذى حرصت أن يحوى بين دفتيهعلى الكثير من الأمكنة التي زرتها او اختبرتها على مدى الأربع سنوات الاخيرة، هو محاولة لتخليد وتوثيق موطئ قدمي وخيالي بين دفتي كتاب ليس لأهميته فربما يكون غير ذلك ولكن لأنه سيكون لي مكانا فوق رفوف مكتبات المجلس الأعلى للثقافة مكانا أتاحه لي د. عماد أبو غازي الأمين العام للمجلس ليحمى ترحالي من الضياع. انه احساس رائع يغمرني بالسعادة.. اليه كل الامتنان أينما كان.