الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

تراثيات.. طه حسين يحلل أول أزمة تعرض لها "ذو النورين" في خلافته

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أكد الدكتور طه حسين أن خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بدأ خلافته بأزمة كبيرة كادت تعصف بخلافته، وكانت كفيلة بمحو خلافته لولا أنه تعامل معها بحكمة شديدة.
وأوضح عميد الأدب العربي في الجزء الأول من كتاب "الفتنة الكبرى" والذي تناول فيه ملابسات تولي عثمان بن عفان الخلافة، أنه بعد مقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قام ابنه عبيد الله بن عمر بقتل ثلاثة ظن أنهم اشتركوا في قتل أبيه وهم "الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة"، فلما تولى "عثمان" الخلافة وجد أنه أمام قضية صعبة، فلا بد أن يقتص لأبرياء قتلوا، وكانت أمامه عدة خيارات من بينها قتل عبيد الله؛ ولكن الناس قالت: يُقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم.
وقدم مؤلف "الفتنة الكبرى" تحليلا رائعًا لهذه الأزمة قائلا: "وكان أول ما عرض لعثمان من الأحداث قبل أن يستتم اليوم الأول من أيام خلافته، قصة عبيد لله بن عمر الذي قتل الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، وهي قصة امتحن بها المسلمون امتحانًا عسيرًا، فأبو لؤلؤة هو قاتل عمر؛ طعنه بخنجر ذي رأسين حين كان يتقدم للصلاة، فتكاثر الناس على أبي لؤلؤة فأخذوه، ولكنه قتل نفسه قبل أن يسأل في
ذلك أو يجيب، وقال بعض الناس: إنه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان، وكان قد أسلم، وجفينة وكان نصرانيٍّا، قد خلصوا نجيٍّا وفي أيديهم هذا الخنجر يقلبونه، فلما أقبل عليهم قاموا وسقط الخنجر من أيديهم. فلما مات عمر أقبل ابنه عبيد لله شاهرًا سيفه حتى أتى الهرمزان فقتله، فيقول الرواة إنه لما أحسَّ عَضَّ السيف قال: لا إله إلا لله. ثم أتى جفينة فقتله، فيقول الرواة إنه لما أحسَّ الموت صَلَّب بين عينيه. ثم أتى منزل أبي لؤلؤة فقتل ابنته، وبلغ الخبر صهيبًا وكان على صلاة الناس، فأرسل إليه مَن يكفُّه من المسلمين،
وقد انتهى إليه سعد بن أبي وقاص فساوره وما زال به حتى أخذ منه السيف، ثم حُبِسَ حتى يقضي الخليفة في أمره.
فلم تكد بيعة عثمان تتم حتى شاور المسلمين الذين حضروه في أمر عبيد لله هذا الذي ثأر لنفسه بنفسه وثأر لنفسه عن غير بينة، فقتل رجلًا مسلمًا وقتل ذميين بغير الحق ودون أن يخوِّله السلطان قتلهما. فأما أهل البصيرة والفقه وفيهم عليٌّ فأشاروا بالقَوَدِ؛ لأن عبيد لله قد تعدى حدود لله كما رأيت. وقال قوم كثير من المسلمين: يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم، وزعموا أن عمرو بن العاص قال لعثمان: قد أعفاك لله من هذه القضية، فقد حدث ما حدث وليس لك على المسلمين سلطان. وقد اختلفت الرواة في الحكم الذي أمضاه عثمان في هذه القضية: فقوم يزعمون أن عثمان قضى بالقَوَدِ ودفع عبيد لله إلى ابن الهرمزان ليقتله بأبيه. وأكثر المؤرخين يزعمون أن عثمان قال: أنا ولي الهرمزان وولي من قتل عبيد لله، وقد عفوت وأدفع دية من قتل من مالي إلى بيت مال المسلمين. وهذا أشبه بسيرة عثمان، فما كان عثمان ليستفتح خلافته بقتل فتى من فتيان قريش وابن من أبناء عمر، وما كان عثمان ليهدر دم مسلم وذميين، وهو من أجل ذلك آثر العافية، فأدى دية القتلى من ماله الخاص إلى بيت مال المسلمين، وحقن دم عبيد لله بن عمر. وفي إمضائه الحكم على هذا النحو سياسة رشيدة لو نظر الناس إلى القضية نظرة سياسية خالصة. فلم يبعد من قال من المسلمين: يقتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟! ولو قد قتل عثمان عبيد لله بن عمر في القصاص لغيَّر على نفسه قلوب آل الخطاب خاصة وبني عدي عامة، بل لغير قلوب قريش كلها وقلوب كثير من غير قريش. ولو قد عفا ولم يعقل القتلى لفتح بابًا من أبواب
الفوضى لا سبيل إلى إغلاقه...
ونعود فنقول: إن عثمان كان ولي أمر المسلمين، وله بحكم هذه الولاية أن يعفو، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدٍّا من حدود لله ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه، وإنما أدى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده، ولكن هذا النحو من العفو لا يخلو مما يريب المتشددين في الدين؛ فعبيد لله لم يعاقب على شيء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حين أدى الدية من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبيد لله، ثم فرض عليه وعلى أسرته دية القتلى؛ لأقام الحد في غير ريبة، ولما
استطاع أحد أن ينكر من قضائه شيئًا، ولو أنه إذ أدى الدية من ماله رفقًا بآل الخطاب أمسك عبيد لله في السجن تعزيرًا له وتأديبًا، حتى يتوب إلى لله من إثمه، ويندم على إراقة الدم في غير حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفيظة الجاهلية — لو قد فعل ذلك لكان له مخرج من هذا الحرج، ولأعلم فتيان قريش من أمثال عبيد لله أن دماء المسلمين والذميين أعظم حرمة عند لله وعند السلطان من أن تراق بغير الحق ثم لا يعاقب من أراقها عقابًا يسيرًا أو خطيرًا، وإنما يخلى بينه وبين الحياة يحياها آمنًا، ويخلى بينه وبين طيبات الحياة يستمتع بها في غير رهب ولا خوف.