رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

واحــة الخميــس.. جمال عبدالناصر- 3

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن حال مصر فى أربعينيات القرن الماضى كما يتصوره بعض الموهومين أو المخدوعين بادعاءات أعداء ثورة يوليو، سواء من الإخوان المسلمين أو من بقايا أصحاب المصالح مع النظام الملكى أو هؤلاء الذين يصابون بداء النوستالجيا، فكل هؤلاء يدعون أن مصر كانت تنعم بالحرية والديمقراطية وبالرخاء الاقتصادى ويتحاكون عن أشياء خيالية ما أنزل الله بها من سلطان، من قبيل أن الأوروبيين كانوا يعملون خدما عند المصريين وأننا كنا نقرض بريطانيا العظمى أموالا، وأن شوارعنا كانت أجمل من شوارع باريس، والسؤال لو كان الأمر كذلك فلماذا خرج الشعب المصرى عن بكرة أبيه مؤيدًا حركة الجيش فى 23 يوليو.. لماذا لم يقف ضدها ويصر على بقاء الملك؟ ولماذا احترقت القاهرة فى يناير ومن أحرقها؟ ولماذا تم تكليف الجيش بالنزول إلى الشارع لضبط الأمن؟ ولماذا هزمنا فى 48؟ ولماذا كل هذه الاغتيالات السياسية التى بدأت برئيس وزراء هو أحمد ماهر باشا وانتهت فى فبراير 49 بحسن البنا وبينهما المئات من رجال السياسة والشرطة المصرية والقضاء كالنقراشى باشا وسليم زكى وأحمد الخازندار، ولماذا تعددت جماعات العمل السرى المسلح من القمصان الصفر إلى النظام الخاص؟ ألم تكن الحياة وردية كما تدعون؟.. الواقع يا سادة أن الحياة فى مصر كانت فى منتهى البؤس، وإلا ما كتب بيرم وما لحن زكريا أحمد: هاتجن يا ريت ياإخوانا مارحتش لندن ولا باريز.. دى بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ.. مالقتش جدع متعافى وحافى وماشى يقشر خس.. ولا شحط مشمرخ أفندى معاه عود خلفه ونازل مص.. الخ كلمات الأغنية التى تصف حال الشارع المصرى آنذاك والذى كان يعج بكم هائل من الإنجليز والإستراليين، ومن أجل عيونهم فتح الخواجة «ينى» خمارته فجذبت الراقصات والساقطات وأصدرت حكومة جلالة الملك القوانين المنظمة لمثل هذه الأمور وكيفية إدارة بيوت الدعارة والترخيص لها، وبينما كان الجيش المصرى مرغما على الحرب فى العلمين مع الإنجليز ضد الألمان كان جلالة الملك المفدى يسهر فى الأوبرج ليلعب القمار وحوله الحسناوات، بل إنه سافر ذات مرة إلى اليونان ليكون رئيسًا لمسابقة ملكة جمال مصر والتى فازت فيها كاميليا معشوقته، وكثيرة هى الحكايات التى رواها أصحابها بأنفسهم كحكمت فهمى وناهد رشاد، والخلاصة أنه كان عصر انفلات وكان القوى فيه يأكل الضعيف، ناهيك عن الإقطاع والبشاوية والباكوية التى كانت تباع وتشترى، فقد كانت الرشوة سائدة وطال الفساد معظم السياسين واقرأوا الكتاب الأسود والفضائح التى ذكرها مكرم عبيد عن فساد الوزراء، واقرأوا كتاب مقدمات ثورة يوليو لعبدالرحمن الرافعى لتعرفوا كيف كانت الأجواء فى مصر آنذاك، وعلى كل حال فقد تخرج الشاب جمال عبدالناصر فى هذه الأجواء من الكلية الحربية فى يوليو 1938، حيث كان الجيش بحاجة إلى ضباط جدد لسد الفراغ الذى تركه انتقال القوات الإنجليزية إلى منطقة القناة وإلى المناطق التى من المتوقع أن تحدث فيها مواجهات مع الجانب الإيطالى كالحدود الغربية والجنوبية، والتحق جمال فور تخرجه بسلاح المشاه، حيث عمل فى منقباد بالصعيد وهناك التقى بأنور السادات وزكريا محيى الدين، وفى عام 39 تم نقله إلى السودان ومنه كتب لصديقه حسن النشار عدة خطابات نشرت فيما بعد منها ما قال فيها «هنا فى عملى كل عيبى أننى دوغرى لا أعرف التملق ولا الكلمات الحلوة ولا التمسح بالأذيال، لكن الرؤساء يا حسن يسوؤهم ذلك الذى لايسبح بحمدهم فهذه كبرياء وهم شبوا على المذلة فى كنف الاستعمار... ويحزننى يا حسن أن أقول إن هذا الجيل الجديد قد أفسده الجيل القديم فأصبح منافقًا متملقًا... أما أنا فقد صمدت وما زلت ولذلك تجدنى فى عداء مستمر ومستحكم مع هؤلاء الكبار» وفى عام 41 تم نقل جمال إلى كتيبة تتبع الجيش الإنجليزى بالقرب من العلمين، وفى هذه اللحظة تساءل جمال: لماذا نشارك فى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ لماذا نقاتل من أجل بقاء المستعمر المغتصب لأرضنا؟ لماذا نموت ليحيى الإنجليز؟ وأثناء وجوده فى العلمين حدثت واقعة الرابع من فبراير 42 حيث حاصر السفير البريطانى قصر عابدين بالدبابات وأمهل الملك عدة ساعات يخيره فيها بين إقالته وإبعاده عن عرش مصر أو تكليف النحاس بتشكيل الوزارة وقد وافق الملك على ما طلب منه دون قيد أو شرط، واستدعى النحاس فورا وكلفه بتشكيل الوزارة، تماما كما أمر سعادة السفير البريطانى وعن هذا الموقف كتب جمال فى إحدى رسائله لصديقه النشار: «كنت على وشك الانفجار من الغيظ ولكن ما العمل بعد أن وقعت الواقعة وقبلناها مستسلمين خاضعين خائفين.. أما الجيش فقد كان لهذا الحادث تأثير كبير عليه» ويذكر جمال أن الضباط أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس فى سبيل العزة والكرامة بعدما انتاب الجميع حالة من المرارة، فالملك لا يستطيع أن يرفض ما يمليه عليه السفير البريطاني، والسفير يحاصر قصر عابدين ويتحكم فى الشأن المصرى، وبعد عدة شهور رقى جمال إلى رتبة «اليوزباشى»أو النقيب، وفى عام 43 عين مدرسًا بالكلية الحربية فقرر الالتحاق بمدرسة أركان حرب للحصول على شهادة أعلى فى العلوم العسكرية، فقد كان جمال يتطلع إلى المزيد من الدراسات العسكرية.. وللحديث بقية.