الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التفكير الناقد وعيسى بن هشام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ينزع الكثير من الباحثين إلى أن مصطلح «التفكير الناقد» قد ظهر عقب ثورة ما بعد الحداثيين على كل أشكال الثوابت الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية والقوانين العلمية والمواثيق الوضعية، وذلك للكشف عما فيها من سلطات تقيد الحريات وتحول بين الذهن وسياحاته وانتقاء اختياراته وانتخاب الأفضل لرسم مستقبله والتعبير عن قناعاته، غير عابئ بتلك القيم التليدة التى ألبسها الأقدمون عباءة القداسة ظانين أنها أسس للإلزام.

بيد أن الباحث المدقق يمكنه إدراك العديد من صور التفكير الناقد فى تراثنا العربى قديمًا وحديثًا، وأعتقد أن معظم المقامات التى تحدثنا سلفًا عنها تحمل تلك الوجهة فى التفكير من حيث طرحها للقضايا والمشكلات بلغة المعارض الفطن الواعى والناقد الحصيف والخبير بمقاصد انتقاداته ومآلاتها وامتلاك القدرة على وضع حلول لها بنهج بسيط ينتحل الفكاهة والسخرية والتهكم تارة، والمنحى العلمى فى تمزيق الستائر وكشف الحجب وتحطيم الأصنام التى تحول بين المتلقى والوقوف على مواطن الخلل ومواضع الفساد ومكامن العيب تارة أخرى

ويروق للدراسات المعاصرة وصف هذا الضرب - أى التفكير الناقد - بأنه أهم أشكال التفكير المنطقى الفاعل، وأقرب النماذج للتحليلات الإبداعية، وجعلوا له سمات عشر هي: تحديد المشكلة بكل دقة ووضوح، واستخدام مصادر موثقة من البيانات والمعلومات، والبحث عن بدائل وفحصها باهتمام بالغ، وإيجاد أسباب ذات علاقة منطقية سياقية عاقلة مباشرة وغير مباشرة، والانفتاح على الأفكار والآراء الجديدة، وإصدار الأحكام المناسبة واتخاذ القرارات الملائمة فى ضوء الأهداف الموضوعية بمنأي عن الرغبات الشخصية أو العواطف الفردية، والعصبيات أو التحزب، والمثابرة على حل المشكلات وإثارة التفكير باستمرار، والتشكيك فى التقارير والمعلومات للوصول إلى اليقين، وتأجيل إصدار القرارات ما دامت الأدلة غير كافية

كما تؤكد الكتابات المعاصرة أن هذا الضرب عملى تطبيقي، وهو بالضرورة أفضل آليات المصلحين على مر العصور، وذلك لأنه أبعد ما يكون عن التهوين والتهويل فى عرض المشكلات والقضايا وأقرب إلى الواقع والمنطق منه إلى التقليد فى وضع الحلول وأحرص المناهج على صدق البيانات وفحص الأسباب وتجريح الأسانيد والمتون واختبار الحلول المقترحة والموازنة بينها بحيدة وموضوعية ونزاهة تنأى بصاحبها عن كل أشكال الهوى والغرض، ومقاومة الأفكار التقليدية وسلطة الجمهور والقوى المؤثرة، وذلك بعد التأكد من صدق وصحة ومراجعة المقدمات والنتائج.

وما أكثر المنابر والأبواق العالية التى تدعى التزامها بهذا المنحى - فى ثقافتنا المعاصرة - وذلك النهج الدقيق فى طرح المشكلات ونقد القضايا وتحليل الآراء انتصارًا للصدق والحق طلبًا لتقويم ما فسد، ولعل أقرب الأمثلة لذلك هى تلك القنوات التليفزيونية والبرامج والصحف الورقية والإلكترونية التى احترفت تزييف الوعى وطمس الحقائق وتشويش الأذهان وترويج الشائعات وتحريض العوام على تفعيل ما أطلقوا عليه الفوضى الخلاقة، كما أن حروب الجيل الرابع والخامس تعول كثيرًا فى أسلحتها على الحيلولة بين المثقفين وانتهاج التفكير الناقد، فما أكثر الممثلين لأوهام المسرح وأوهام السوق، إذ نجد العديد من المشاهير فى ثقافتنا العربية من يتعمدون قلب الحقائق ويروجون للأكاذيب باسم العلم تارة وأصول العقائد تارة أخرى، وخطر هؤلاء لا يصيب العوام فحسب بل الخواص أيضًا من كبار الصحفيين والمعلمين والدعاة، وهناك من يلعبون فى السوق فيفسدون الأذواق ويدمرون ما بقى من القيم الأخلاقية والجمالية، ذلك بترويجهم لأحط الألفاظ فى حواراتهم وأغانيهم ونكاتهم، الأمر الذى اصطنع من أطفالنا وشبابنا جيلًا سافلًا فى لغته وعوائده وسلوكه، وذلك كله من جراء التقليد الأعمى للمشاهير الذين يجسدون أوهام المسرح أو السوقة والدهماء الذين يتحكمون فى أوهام السوق.

ويلخص أحد الباحثين المعاصرين تلك الآفات وعللها فى أمور ثمانية هي: اللجوء إلى قوة التأثير والهجوم الشخصى وتلفيق التهم وادعاء خرق الثوابت وذلك لتشويه الأوضاع القائمة، وذلك بعد دراسة وافية لثقافة الرأى العام الضحلة، وتعلق أفراده بثقافة التبجح والتطاول على الأغيار المخالفين، والتشكيك والتردد فى قبول القرارات والآراء المناسبة المواكبة للقضايا المطروحة والأزمات المعيشة، والتضليل والتهكم الساخر والضحك المذموم من كل المخالفين بغية الحط من شأنهم وتسفيه آرائهم، واللعب باللغة على نحو سافل متخذين من قاعدتى القلب والإبدال صيغا للشتم والقدح والفحش والتعريض، وادعاء حل المشكلات عن طريق معلومات مغلوطة وأسانيد مزيفة قد صيغت فى صور معقولة من حيث الشكل والترويج لشائعات تستند إلى مصادر مصطنعة لا أصل لها، والتهوين من القضايا المطروحة التى تشغل الرأى العام وادعاء أن الفساد كامن فى سلطة المخالفين، وتضمين خطاباتهم النقدية الآيات القرآنية والأحاديث المقدسة والأقوال المأثورة والأمثال الشائعة والحكم الموروثة، وذلك بعد إعادة مضامينها وحشرها ضمن العبارات المطروحة للإعلاء من قيمتها ومقاصدها.

وهناك آفات أخرى تحول بين تطبيق التفكير الناقد فى ثقافتنا وتسييس أمور حياتنا وهى تبدو فى تسع آفات: الاعتماد فى مناقشة القضايا وتقييم الحلول على منطق التناقض (إما - أو) الأمر الذى يخالف المنطق المعاصر (منطق تعدد القيم) فى التقييم من جهة وأسلوب ما بعد الحداثيين فى جدولة الأحكام من جهة أخرى، والأصح هو اتباع فلسفة الممكن التى تقيم المطروح فى ضوء الواقع بنسب متغيرة تبعًا للزمان والمكان والوضع والحالة.

أضف إلى ذلك آفة المبالغة فى التعميم والتهويل من شأن الأحداث وتضخيم الأزمات، وإقناع المتلقى بأن الرأى الصواب له وجه واحد وأن الحل فى ركابهم دون غيرهم، ورفع شعار (قولًا واحدًا) واستشراف النتائج وادعاء معرفة المآلات والتهديد من العواقب والزعم بحتمية النتائج المستنبطة من استدلالات منطقية مؤكدة، واختلاق الأخبار المثيرة استنادًا على صور مفككة أعيد تركيبها للتمويه والخداع، والاستناد إلى قوة علوية لتأييد وجهة نظر المرسل، وعقد مقارنات جائرة لا توافق بينها، وتشويه كل إيجابيات ما يطرحه الخصم وتأييس المتلقى من الواقع المطروح، وتعمد الإتيان بمصطلحات مبهمة واستشهادات مستغلقة وبراهين يصعب التأكد منها وأقوال مبتورة ونظريات مجهولة، وتجهيل المتلقى وإيهامه بوجود أسرار خفية لا يعلمها، وحشد الجانحين والجامحين والمخالفين للمطروح وتجييشهم لمساندة خطاباتهم المرسلة باعتبارها الممثل الأوحد للمعارضة والثورة الواجبة ضد قلاع الاستبداد

وسوف نتناول فى المقالات المقبلة مدى قدرة عيسى بن هشام على ممارسة هذا النهج فى انتقاداته وتحليلاته للمواقف والآراء والواقعات التى تعرض إليها فى مقامته

والسؤال المطروح: هل فى إمكاننا تطبيق التفكير الناقد فى حياتنا بداية من الخطابات المطروحة بالداخل والخارج ونهاية بمشكلاتنا وعوائدنا وتصرفاتنا وما نضعه من أفكار لتخطيط المستقبل؟ 

وللحديث بقية