الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

البوقالة الطرابلسية (1 من 2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
للمرأة أينما كانت فى رقعة هذا العالم فنونها وتراثها الشعبى الشفاهى الذى تبوح من خلاله بمكنوناتها وما يعمر وجدانها، شكوى ألم وفجيعة، أم بوح فرح وأمل، معلن أم مرموز، ويأتى إصدار الشاعرة الليبية المغتربة (بهولندا) كريمة الشماخى المعنون (البوقالة فى الموروث الشعبى الليبي) حافظا وموثقا لأحد صنوف غناء المرأة الشعبى، وهو جهد بكر ورائد، وتأتى أهميته فى ظل نقص الجهود المنظمة والمدروسة للجمع والحفظ من جهة (بالنظر إلى الرقعة الليبية)، وإن حضرت فمركزيتها ممثلة إما فى الشعر الشعبى (الذكورى عادة) أو الأمثال الشعبية، وحيث إننا لم نؤسس بعد لولوج علم المأثورات الشعبية كمنهج ومفردات إلى كلياتنا المتخصصة فى العلوم الإنسانية ليتاح للمواد الخام الشعبية (المادية واللا مادية)- من ثم- المحك الحقيقى للبحث والتحليل بالمناهج الفلوكلورية المتعددة.
يُطل علينا غلاف الإصدار بوجه سيدة ليبية بزيها الشعبى تجلس محاطة بأكوام من الخيوط الصوفية (تُسمى باللهجة: طُعمة) تمعن ببصرها فى ما ازدحم حولها من صوف مغزول لتنسجه، كما تنسج «بوقالاتها» المتوارثة منذ أزمان؛ لتبعث التفاؤل والبشر فى قلوب الصبايا اللاتى يعولن على غنائها ألحانا شجية وصفا لخصال حبيبهن المنتظر، صفحات مُفتتح الكتاب مُزدحمة بمجموعة من الصور: نافورة الأحصنة (طرابلس مدينة الحب والجمال)، شيخ ليبى يؤدى رقصة شعبية، وآخر يصعد مخزن مؤونته فى معمار جبلى ( بمدينة كاباو)، وطفلة ترتدى زيا تارقيا، وقصائد مختارة فصحى وعامية، ثم صفحة تسطر فيها إهدائها إلى وطنها ليبيا وشعبها، وإلى أمهات الوطن مرجع تراثه، وإلى والدتها (بدرية بورو)، ثم تدخلنا إلى مقدمة مُستعرضة لأجواء جلسة «البوقالة» كما عاصرتها فى مدينتها طرابلس، فالاستهلال تُشّرِعُهُ سيدة موثوقة (كبيرة فى السن عادة)، صاحبة خبرة، وكمرجعية اجتماعية حافظة للعادات والتقاليد المتوارثة، تُلقى مقطع أول البوقالة:
على أول ما بديت وعلى النبى صليت
وعلى صحاب العشرة ناديت
وقلت يا خالقى غيت كل مُغيت
ورغم تحديدها للفضاء الزمنى الذى تلتقى فيه الفتيات مع راوية البوقالة فى الليالى الرمضانية
إلا أنه وعند سؤالى لأكثر من سيدة ممن عاصرن جلسات البوقالة الطرابلسية أكدن لى أن الأمسيات اليومية كانت مسرحا لقعدة البوقالة، فما إن تشير السيدة الحافظة إلى الفتيات حتى يتجمعن حولها، وفى بعض الأحيان يأتى الطلب من الفتيات إلى السيدة، ولم يكن مشروطًا بليالى رمضان فقط، فالبوقالة الفضاء الاجتماعى المتاح فى مجتمع بطريركى (سيادة الأب) محافظ لا يتعدى دور المرأة فيه الاهتمام ببيتها- الذى كانت لا تغادره إلا «لماما- وزوجها وأبنائها»، لذلك تقول ذاتها لذاتها وتعيد تكرار ذلك، تبث هواجسها وحيرتها المرتهنة بصراعها الدائب من أجل أن تتحقق متطلبات بقائها وفق الأعراف والتقاليد المراعاة والبوقالة التى ترد بلهجة شعبية دارجة لا تكلُف فيها، مفرداتها عفوية بسيطة لا قافية إلزامية.أما فضاؤها الجغرافى فمُحددهُ أجزاء كبيرة من المدن الليبية وإن كانت مركزيتها مدينة طرابلس وغربها، وقد تتغير بعض كلماتها، إلا أن المضمون واحد.
وعن وقائع جلسة البوقالة التى تصفها كريمة كمعاصرة لها: تأخذ سيدة الجلسة من تستحوذ بألباب الفتيات (أُميمة أو حنة = الأم أوالجدة باللهجة) غطاء رأس- التستمال أو ما شابه ذلك- من إحدى الفتيات الجالسات، وتطلب منها أن تحمل نية أمنيتها، فإذا كانت فتاة غير متزوجة يكون أملها عن زوج المستقبل (قوة السعد كما يشاع محليا)، وإن كانت امرأة متزوجة فأمنيات بمزيد من الصحة والرزق والسعادة الزوجية، بعدها تطلب سيدة الجلسة من (الفتاة أوالمرأة) أن تعمل عقدة فى حاشية الغطاء، وتبدأ السيدة بإلقاء أبيات البوقالة التى قد تتطابق مع ما حملته فى سرها الفتاة أو المرأة من نوايا، وهكذا تفك عقدة غطاء الرأس، وتعطيه لفتاة أخرى إلى أن يمر على جميع الفتيات بذات الطريقة ليشمل كل الحاضرات، فيغادرن الجلسة مشبعات بالبهجة والتباشير، حالمات بفأل حسن لأفراح ومسرات مقبلة. ولعلها إحدى الوظائف النفسية التى تشى بها جلسة البوقالة، وتستدرك كريمة أنه قد تكتب الراوية أشعار البوقالة وتضعها فى إناء من الفخار بعد أن تطلق البخور ليملأ المكان، وتبدأ الفتاة بعمل عقدة صغيرة فى فستانها ثم تحمل فى سرها أُمنيتها، عقبها تمنحها الراوية الورقة المكتوبة لتقرأ فألها، وفى ظنى أن ذلك حدث فى زمن لاحق تحقق للمرأة فيه محو أميتها سواء السيدة الراوية أم الفتاة.