الإثنين 06 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شباب مصر المغترب: "طعم البعاد صبّار"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

داخل مطعم الفندق الذى أقيم فيه أثناء زيارتى إلى بغداد.. داعبت أذنى لهجة محببة مصدرها مجموعة كبيرة من الشباب تجمعت حول مائدة الإفطار. بادرت الترحيب بهم، شباب مغترب فى مقتبل العمر من مختلف مدن وأحياء مصر الحبيبة، الإسكندرية.. طنطا.. شبرا..المعادي. دفء الصدفة الجميلة كان لا بد أن يكتمل مع فناجين الشاى والقهوة.. زاد سخونتهما حوارات للتنقيب بعمق أكثر عن اختيار كل منهم للغربة رغم انطلاق مختلف المشاريع التى تستوعب آلاف من هم مثل هؤلاء الشباب. الشق الاقتصادى يمثل القاسم المشترك الوحيد الذى يجمع بينهم. اختاروا الغربة بعد تجارب بعضهم العمل فى القطاع الخاص، والتى لم توافق مرتباتها طموحاتهم المادية لبناء حياة ومستقبل، بينما استبعدوا اللجوء إلى القروض التى توفرها الحكومة للمشاريع الصغيرة إما لما تمثله عليهم من أعباء ديون يتوجب عليهم تسديدها مستقبلا، أو بسبب ضآلة مبلغ القرض الذى لا يكفى لإقامة مشروع صغير. الاصطدام بواقع الغربة وما قد يحمله من مفاجآت غير محتملة دفع أحد الشباب التأكيد لي، بعد تجربة عشرة أيام غربة فقط، إنه عائد إلى مصر بعدما تعرض لحالات إغماء وتورم فى قدميه بسبب قسوة ظروف عمل مرقِق تتجاوز الستة عشر ساعة يوميًا!.
الشق الإيجابى فى نظرة أغلب الشباب للغربة، أنها مجرد فرصة لادخار ما يضمن لهم العودة إلى مصر وتكوين أى مشروع صغير.. مؤكدين أنه هدف النسبة الأكبر من أصدقائهم، سواء من الملتحقين بعمل فى مختلف دول الخليج العربى أو ممن هم فى انتظار الفرصة، رغم الحالات الفردية للتعديات المرفوضة التى قد يتعرض لها أحدهم. أغلب من خاضوا تجارب غربة سابقة فى السعودية أو سائر دول الخليج اتفقوا على أن إقبال الشباب على هذه الخطوة، لما تحمله من مراجعة واقعية للاعتبارات الاقتصادية، لا يقارن باللجوء إلى حلول مجهولة العواقب مثل قوارب الموت. سعادة اكتشافى متانة ارتباط أغلب هؤلاء الشباب بمصر.. قابلها من الجهة الأخرى دهشة من قناعة لدى البعض الآخر لا تخلو من التشويش وعدم الوضوح حول «الحلم» الأوروبى أو الأمريكي، للأسف اعتمادًا على معلومات غير دقيقة من أحد أقاربهم أو أصدقائهم فى هذه الدول. ساعات من الجدال حاولت خلالها، بناء على ما لمسته خلال زياراتى المتعددة لهذه الدول، إعطاء أمثلة كنماذج لأسعار متطلبات الحياة اليومية وتكاليف المعيشة، حتى على أبسط نطاق، فى هذه الدول خصوصًا مع الغلاء الفاحش بعد توحيد العملة وفقا لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
بعيدًا عن نماذج النجاحات المشرفة التى تنسب إلى خيرة أبناء مصر.. تظل القاعدة التى ينبغى وضعها أمام البسطاء من «المبهورين» بهذا «الحلم» أن فرص العمل أمام الشريحة العامة من المهاجرين إلى أمريكا أو أوروبا لن تتجاوز سقف المهن الهامشية التى يعزف الشباب، خصوصًا من حملة المؤهلات الجامعية، عن قبولها فى مصر.. وغالبًا ما تصطدم بالواقع أحلامهم الزائفة عن إمكانية حصولهم على أجور جيدة تتيح لهم الادخار، بل حتى مستوى العيش البسيط. أغلب المتشبثين بهذا «الحلم» ممن سبق لهم العمل فى منتجعات شرم الشيخ والغردقة ثم انقطعت أرزاقهم بعد ثورة ٢٥ يناير إثر الركود السياحى الذى واكبها. هذا الانبهار بنمط الحياة فى أمريكا وأوروبا نما داخلهم نتيجة الاختلاط المتواصل بالأفواج السياحية من مختلف الجنسيات، الغريب أن إصرارهم على رغبة الوصول إلى «الحلم» دفعهم للسفر إلى أى دولة عربية كنقطة انطلاق إلى أمريكا أو أوروبا دون أى تخطيط مستقبلى فى الخطوة التى تلى وصولهم.
الهدف الذى اتفق عليه أغلب أفراد المجموعة من وضع حد زمنى للغربة، مهما بلغت المتاعب والصعوبات، ينتهى عند توفير مبلغ يضمن لهم إقامة مشروع صغير، يمثل نقلة إيجابية، كما شرحوا لي، تنم عن اختلاف نظرة شريحة كبيرة من الشباب إلى التسابق على الوظائف الحكومية وكل المفاهيم البالية التى ربطتها بالوجاهة الاجتماعية مقارنة بمجالات العمل الحر، هذه النظرة التى عفي عليها الزمن للأسف حرمت المجتمع من ظهور جيل حاصل على تعليم عالٍ من أصحاب الحرف المختلفة. السنوات الماضية شهدت محاولات ناجحة ـ وإن كانت محدودة ـ سواء من شباب أو فتيات اعتمادا على أفكارهم المبتكرة فى مجال العمل الحر مفضلين التمرد على الإطار التقليدى الذى يفرض الارتباط بأى وظيفة يمكن الحصول عليها.
صدفة حفلت بساعات من الحوار التلقائى كشفت الكثير مما يدور فى عقول ومشاعر شريحة من الشباب. إذ بالمواكبة مع كل الجهود الملموسة للقيادة السياسية نحو فتح كل جسور التواصل مع الشباب.. المؤكد أن الحكومة وهى تحمل تبعات حكومات سابقة لم تقدم للشباب على مدى عقود سوى التجاهل والتهميش، ما زالت لم تصل إلى مستوى جهود الرئاسة التى تمضى بخطوات أسرع نحو تحويل التقارب مع الشباب إلى واقع ملموس.