الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عشرون عامًا قلبت موازين العـالم "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع المفكر السياسى الفرنسى البارز تييرى دو مونبريال، مدير المركز الفرنسى للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، فى كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم» التحولات العالمية الضخمة التى شهدها العالم خلال الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٨. 
يقول تييرى دو مونبريال: فإذا كان ثمة هدف من استمرار السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتى، فهو نزع السلاح النووى من غرب أوروبا، وينوى الاتحاد السوفيتى إحراز تقدم فى هذا الاتجاه بواسطة ثلاث طرق، أولًا: فتح باب المفاوضات مع الغرب حول الأسلحة قصيرة المدى، وثانيًا: استغلال المناقشات المباشرة حول سلاح الطيران، فى إطار المفاوضات التقليدية، وأخيرًا: ممارسة الضغوط على القوات الفرنسية والبريطانية. 
ولبلوغ هذه الأهداف، فإن الكرملين يستغل، وبمهارة، الخلافات بين دول غرب أوروبا، ومن بينها حساسية ألمانيا الشديدة تجاه السلاح النووى لا سيما ما قد يسقط على أراضيها، وهول المشكلة، فعندما توصل حلف الأطلنطى إلى حل وسط لهذه القضية فى بروكسل، لم يعمل هذا سوى على تأجيل المشكلة لبعض الوقت، أما فيما يتعلق بالقوى المستقلة، فالسوفيت ينتظرون الوقت المناسب للاهتمام بهذه المشكلة. ويعانى حلف الأطلنطى، فيما يتعلق بهذه المسألة، مشكلتين، أولًا: عدم قدرته على تحديد أهدافه بشكل واضح، وثانيًا: صعوبة تناول ومعالجة الحكومات الديمقراطية للقضايا العسكرية أمام الرأى العام. 
ويفسر المتخصصون هذا الموقف بطريقة صائبة قائلين: إن الأهداف الموكلة للقوى النووية متوسطة المدى يمكن أن يتم نقلها لأنظمة أمريكية أخرى ما بين القارات. وهناك قضية أخرى متنازع عليها، وهى عدم جدوى الأسلحة النووية قصيرة المدى لكونها تجبر القوات المناوئة على التشتت، فضلًا عن أنها عامل مشارك على الردع الشامل. 
ومن الناحية السياسية، فإن الأسلحة النووية الأمريكية المنصوبة فى أوروبا لا تعادل مطلقًا الصواريخ الأمريكية المنصوبة فى ولاية أريزونا أو التى تحملها الغواصات الأمريكية. وهذا الرأى صائب إلى درجة أن الأمريكيين أنفسهم، على الرغم من أنه قد سبق لهم دفع حلفائهم إلى نقطة صفر جديدة، فإنهم يقولون اليوم: إن « رجالهم» لن يظلوا قابعين فى القارات القديمة دون حماية الأسلحة النووية المحلية. إن التقسيم الجديد لأوروبا بين شرق شيوعى وغرب رأسمالى يفرض التفكير مليًا فى مستقبل هذه القارة. ويشجعنا جورباتشوف، فى الواقع، على المضى فى هذا التفكير بمفهومه الجديد عن «البيت الأوروبى الموحد». فتطوير الاتحاد الأوروبى وقوة جذبه للدول الأوروبية الأخرى، يفرض على الدول الأعضاء طرح تساؤل عن مستقبل هذا التنظيم، فالاتحاد السوفيتى يعد أول نقطة تميز ملحوظة فى القارة الأوروبية. إن ما يجب تأكيده بوضوح أن الاتحاد السوفيتى لا يعتبر جزءًا من أوروبا، ولكن دول البلطيق وروسيا البيضاء وأوكرانيا وروسيا نفسها بالطبع جميعها ضمن الكيان الجغرافى الأوروبى.
وفى المقابل، يعتبر الاتحاد السوفيتى قوة أوروبية وفى الوقت نفسه قوة آسيوية طبقًا لمصالحه الكبيرة هنا وهناك، لذا، فمن غير المعقول أن يحتل مكانًا فى هذا «البيت الأوروبى الموحد»، حتى إن كان مكانًا متواضعًا.
السؤال الحقيقى الذى يطرح نفسه، ما مستقبل عملية الاندماج التى انطلقت بعد توقيع اتفاقية روما، وكذلك مستقبل علاقات الاتحاد الأوروبى بباقى دول أوروبا، كما تراها الدول الأعضاء. ففى منظور العلاقات الدولية وأى علاقات أخرى، العضو الجديد يجب أن يتم قبوله أولًا من قبل المعسكر الذى يرغب الانضمام إليه؟. إن مغامرة التوحد الأوروبى، هى مغامرة ناجحة بكل المقاييس وفريدة من نوعها على الصعيد التاريخى، فخلال العشرين عامًا الأخيرة، كانت أبرز النجاحات التى حققتها أوروبا هى إنشاء المجلس الأوروبى، وانتخاب البرلمان الأوروبى بالاقتراع العام ونظام العملة الموحدة وانضمام إسبانيا والبرتغال للاتحاد، وأخيرًا إصدار القانون الأوروبى الموحد. كما نجح الاتحاد الأوروبى فى مقاومة الأزمة الاقتصادية التى تولدت عقب انفجار أول أزمة نفط، وكذلك تفكك النظام النقدى بعد مؤتمر «بريتون وودز». أما اليوم، فهو يعانى أزمة هوية نظرًا لعدم اتفاق أعضائه حول الأهداف المزمع تحقيقها، فبين إنجلترا التى تطمح فى إقامة منطقة للتجارة الحرة وفرنسا التى لا تزال تحلم بـأوروبا على الطراز الأوروبى، فهناك خلافات حول الأهداف التى يتعين بلوغها. وفى مثل هذه الظروف، فالمقاومة شديدة لقبول وجهة نظر الدول الجديدة التى ترغب فى الانضمام للاتحاد، مثل النمسا أو تركيا، دون أن نأخذ فى الاعتبار اهتمامًا كافيًا لتبعات توسع جديد فى الاتحاد الأوروبى. 
فمن الممكن، على الأقل تخيل مجتمع أوروبى يضم جميع الدول الأوروبية الديمقراطية التى تطبق اقتصاد نظام السوق حتى إن كانت تشمل دول أوروبا الشرقية، إذا كانت قد أحرزت تقدمًا كافيًا فى هذا الاتجاه، لكن حينئذ، من لا يستطيع أن يرى أن مثل هذا الاتحاد الموسع قد يتعرض لخطر فقدان تجانسه، من لا يرى أن فكرة الاندماج قد تتحول إلى وهم كبير، ومن لا يرى أن صراعات العهود الماضية قد تطفو مرة أخرى على الساحة بين أعضاء هذا التجمع المترامى الأطراف؟ إن الفكرة الأساسية للمشروع الأوروبى كانت الاندماج، فالاندماج وليس التجارة الحرة، بين بلدين أو أكثر هو ما سيجعل اندلاع الحروب مستحيلًا نظرًا لتداخل المصالح، وهذا صحيح إلى درجة أن بعض السوفيت الذين يفكرون أيضًا فى مستقبل اتحادهم لا يترددون فى اتخاذ اتحادنا نموذجًا يحتذى به. فقبل أن نقرر التوسع من جديد، فلنعمق ما حققناه حتى الآن، فلا يزال الجدال القديم بين التوسع والتعميق يطرح نفسه حتى الآن. 
فإذا خطونا خطوات سريعة فى إذابة الكيانات بشكل مبالغ فيه، فقد نفقد القدرة التى استطعنا إظهارها خلال الخمسة عشر عامًا الماضية فى مقاومة الصدمات الخارجية، مثل: احتمال تفكك الاتحاد السوفيتى إلى حد انتشار الفوضى، وهذا احتمال وارد لا يمكن استبعاده. وليكن لدينا الجرأة على التوضيح بثقة أن المشكلة الألمانية فرصتها ضئيلة فى اتجاه حل متوازن دون وجود اتحاد أوروبى على أقصى درجة من الصلابة.