رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ترامب.. معركة الأمل والحنين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لئن كشف انتخاب دونالد ترامب عن الضعف الذى بات يعانيه اليوم النظام الديموقراطى، بل الحضارة الديموقراطية، فإن خطبتى هيلارى كلينتون وباراك أوباما، تسليمًا بالهزيمة وتمهيدًا لانتقال سلس للسلطة، تكشفان قوة النظام والحضارة هذين.
والحال أن الديموقراطية تجمع بين الضعف والقوة على نحو مدهش: ذاك أن فى وسع ديماغوجيٍّ كدونالد ترامب أن يهدّدها، وفى وسع ديماغوجى كأدولف هتلر أن يُسقطها. لكن فى وسعها أن تنتصر فى حربين عالميتين، وأن تقضى تباعًا على إمبراطوريتين توتاليتاريتين مدججتين بالعبودية الحديثة، النازية والشيوعية.
ونشهد راهنًا لعبة القوة والضعف وهى تستخدم مرادفات كثيرة فى عدادها ما أسماه المؤرخ مارك ليلا ثنائية الأمل والحنين. ذاك أن المتمسكين بالديموقراطية والمعولين عليها يأملون بدخول المستقبل، مع ما يحف بهذه العملية من تحويل إلى الدارج والمألوف: كيف تتعادل فى الحقوق المرأة والرجل، كيف يتغير وضع الفقير والمهمش، كيف تتقارب الشعوب بالتجارة والمثاقفة وتهزل الحدود الفاصلة بينها، وكيف تُخلط الأديان والقوميات والإثنيات فى مصنع يُنتج الإنسان سلعةً أرفع من باقى السلع وأعلى من الأصول التى شكّلته؟
وهو أمل ينطوى على مغامرة كبرى، إذ لا الخلاص المضمون متوافر ولا الطرق إلى المستقبل معبّدة. وهذا ما يردّ عليه أهل الحنين بالعودة إلى الماضى، فعليًا كان أو متوهمًا، والتمسك بالدارج والمألوف اللذين يُتهم الليبراليون والكوزموبوليتيون بالتآمر عليهما. هكذا يعد دونالد ترامب بـ «إعادة أميركا عظيمة» كما يعد أبو بكر البغدادى بـ «خلافة» رشيدة، بحيث يرجع كل شيء إلى ما يُفترض أنه حاله الأولى وما كان عليه: المرأة إلى بيت الطاعة، واللاجئ إلى حيث جاء، والقوميون إلى ينابيعهم وأسباب فرادتهم، والبيض بيض والسود سود، فيما بين البشر والبشر لا تعلو إلا الحواجز والجدران.
لكنّ الحنين لا يقل قوة عن الأمل، وأقوى أسلحته البرم بالحاضر وخفة الانجذاب إلى بديل. فحين يتبدى أن الذاهبين إلى المستقبل، على جناح الأمل، سيذهبون وحدهم، تاركين الملايين فى البؤس، يتحول الحنين إلى طاقة تدمر الديموقراطية وتدمر الحضارة أيضًا. وهذا، بالضبط، ما حدث بعد سقوط «المعسكر الاشتراكى» وشعور النيوليبراليين بأنهم تحرروا من كل منافسة تُلزمهم باستحضار أفضل ما فيهم. عند ذاك بدأ تفكيك دولة الرفاه التى سبق أن أملاها التنافس مع الأنظمة الشيوعية، وتكشّف الجشع الذى جعله الثراء الهائل للعولمة فلكيًا فى أبعاده وقدراته وأرقامه، وصار فى وسع نصّاب كبرلوسكونى أن يحكم بلدًا كإيطاليا.
أما ترامب، الذى صوت له الفقراء البيض، فجاء بـ «برنامج» يخفض الضرائب عن الأغنياء. ومن طريق سيطرة حزبه على أكثرية المجلسين، النواب والشيوخ، سيحول المحكمة العليا مصدرًا لتشريعات بالغة الرجعية فى مسائل الأخلاق والجنس والدين. بهذا، فإن معركة الأمل والحنين ستحتدم فى ظل الرئيس الأمريكى الجديد فيما تعز الأدوات التى تتيح خوضها بكفاءة وفاعلية.
لقد ظهرت الاشتراكية الديموقراطية فى أوروبا لتستدرك ضعف المسألة الاجتماعية فى الفكر الديموقراطى، السياسى والدستورى، بمقدار ما تستدرك ضعف الحس «الحُرّيّ» والديموقراطيّ فى الفكر الاشتراكيّ. والبائس، اليوم، أن هذا العلاج، الذى يبقى بين أرقى ما أنتجته الأفكار السياسية، يعانى احتضارًا لا يشبهه إلا احتضار أحزابه.
وفى معمعة الأفكار والتكهنات الكثيرة، وفيما العقل مثخن بجراح القيم الساقطة التى أحرزت انتصارًا مؤزّرًا فى أبرز معاقله، يُرجح أن يعيش العالم أربع سنوات حاسمة جدًا ومثيرة جدًا من صراع الأمل والحنين، ومن طلب المستقبل والنكوص إلى الماضى، ومن قوة الديموقراطية وضعفها. لكنّ ما يمكن قوله بثقة أن توسيع قاعدة المستفيدين من الحاضر، أو تضييقها، يبقيان العنصر التقريرى الأهم فى المواجهة هذه.
نقلًا عن «الحياة»