الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علي التركي يكتب: «مصنع الرجال».. الجيش المصري عقيدة لم تتغير «1»

الصحفي علي التركي
الصحفي علي التركي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نحتفل هذه الأيام بذكرى انتصار الجيش والشعب المصري في السادس من أكتوبر 1973، على الكيان الصهيوني الغاشم، وتحرير أرض سيناء العزيزة، في ملحمة عسكرية شهد لها العدو قبل الصديق. 
لم يكن نصر أكتوبر المجيد سوى صفحة مضيئة في سجل حافل من انتصارات أمة لم تيأس ولو للحظة واحدة، ودأبت على كتابة أسطر الكفاح لتتعلم منها الإنسانية في سيمفونية تجسد تلاحم جيش يرتكز على صمود شعبه، وشعب يثق في قدرات جيشه. 
فحين تتصفح سجلات التاريخ وتتمعن في الحروب والمعارك التي خاضها الجيش بهدف حماية مصر وحضارتها والحفاظ على ترابها المقدس واستقلالها، بل أحيانا لفرض السلام العادل، وتوطيد الزعامة السياسية والعسكرية لمصر، مؤكد سيتملكك الدهشة والإعجاب بكفاح الأجداد واستبسالهم منقطع النظير، فـ«روح أكتوبر» التي تتحدث عنها الصحف والسياسيون ما هي إلا استنساخ لمواقف ومشاهد عاشها المصري القديم.
فالنصوص القديمة تزهو بما سجله الجيش المصري من مجد وخلود وانتصارات حربية غيرت وجه التاريخ، صنعها محاربون عظام كـ«أحمس الأول» و«تحوتمس الثالث»، و«أمنحتب الثاني»، و«سيتي الأول» و«رمسيس الثاني»، و«مرنبتاح»، و«رمسيس الثالث»، وغيرهم.
لم تتغير العقيدة والإستراتيجية العسكرية، على مر التاريخ منذ نشأة الدولة المصرية القديمة، حتى يومنا هذا، فالتعايش السلمي ورفض الاستعمار والاستقلال الوطني ركائز أساسية، سار عليها الجيش المصري عبر العصور. 
فمع بداية التأسيس الأول للجيش تزامنا مع توحيد الدولة على يد الملك «مينا»، حافظت الإستراتيجية العسكرية المصرية على نهج واضح حيال الجبهات الثلاث: «الأسيوية الشرقية» و«الغربية الليبية»، و«الجنوبية النوبية»، تعتمد على الحذر والدفاع وتأمين الحدود، لذا سنلاحظ الاهتمام الكبير بتطوير أدوات الحرب الدفاعية في عصور الدولة القديمة. 
لكن مع مرور الوقت، أيقنت العسكرية المصرية القديمة ضرورة تنمية القدرات العسكرية الهجومية للتصدي لأي محاولات لتعطيل عصر النهضة في البلاد، ومن هنا تبنت إستراتيجية عسكرية تهدف إلى تكوين مناطق خاضعة للنفوذ المصري في المنطقة الشرقية وسياج من الصداقة مع ملوك وأمراء سوريا وفلسطين، بعيدا عن سياسات التوسع والجور والعدوان وسلب خيرات الأمم التي لم تكن يوما جزءا من الشخصية الحضارية المصرية. 
فالعدل والمشاركة وتبادل المنافع هي أساس العقيدة العسكرية المصرية التي لم تتغير حتى عندما توسعت الإمبراطورية المصرية القديمة وتمكنت من السيطرة على أجزاء من «سوريا وفلسطين وليبيا والنوبة القديمة» وكانت الحدود تمتد من جبال طوروس شمالا حتى الجندل الرابع جنوبا، لم تعامل شعوب تلك المناطق معاملة المحتل المغتصب، بل عقدت مواثيق السلام والتجارة التي تحفظ استقرار المنطقة بعيدا عن المطامع، ولم تسلبهم ثرواتهم بل ساعدتهم في تنميتها وبناء حضارتهم. 
العدو كلمة تعني الشرق
وكانت الجبهة الآسيوية الشرقية، هي الشغل الشاغل للقادة العسكريين منذ العصور القديمة، فعبرها دائما تأتي كل الشرور وهناك يقف الأعداء متربصين ينتظرون الانقضاض على أم الدنيا، بداية من الهكسوس أول غزو أجنبي لمصر، مرورا بالسوريين والأشوريين، والكنعانيين، حتى الإنجليز وأخيرا الكيان الصهيوني، وجميعهم رضخوا أمام بسالة الجندي المصري. 
فبعد ملحمة شعبية وعسكرية نتج عنها تحرير مصر من الهكسوس أدرك العسكريون المصريون أن الأمن القومي يبدأ من سوريا والعراق، فلا مناص من توحيد القبائل القاطنة في هذه البلاد لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها وحماية الحدود المصرية أيضا، وهذا ما يفسر أيضا لماذا سعى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في منتصف القرن الماضي، إلى إقرار الوحدة بين مصر وسوريا، فالعقيدة لم تتغير بمرور القرون، 
«النوبة».. شريان الحياة 
دأبت الإستراتيجية العسكرية المصرية في التعامل مع أرض النوبة، الممتدة جنوب البلاد، على أنها منبع الخير والشراكة والأهل والنسب، فعبرها يمر النهر العظيم ليفيض على الأراضي المصرية بالماء، لذا كانت الشراكات التجارية، وأحيانا الحملات الحربية الوقائية منهجا تحافظ به البلاد على عمقها الإستراتيجي. 
فسماحة العسكرية المصرية دفعت رجال النوبة للوقوف مع الجيش وتزويده بالإمدادات والعتاد لتحرير البلاد من الهكسوس، ومنذ ذلك التاريخ أصبح جنوب أسوان جزءا متمما للحدود الجنوبية، وحلقة الاتصال الأولى بين منتجات أفريقيا ودول البحر المتوسط وغربي آسيا، وهذا ما يفسر المحاولات المتواصلة لإقامة طرق للتبادل التجاري عبر «مصر والسودان»، آخرها ممر آرقين الذي تم افتتاحه الأسبوع الماضي، وأيضا الاستقبال التاريخي للرئيس السوداني عمر البشير. 
ليبيا.. ظهر مصر
تعامل المحاربون المصريون القدامى، مع الجبهة الغربية على أنها الظهر الذي يستند إليه الجيش أثناء تصديه لغزوات الأعداء من الشرق، ولم تتغير هذه الإستراتيجية إلى يومنا هذا، فالموقف المصري في 2016 الداعم للجيش الليبي في أزمته الحالية، هو نفسه قبل 7 قرون مضت. 
فالتاريخ يرصد صفحات مضيئة لجيش «أمنمحات الأول» ونجله «سنوسرت الأول»، وكيف تمكنا من تهدئة القبائل الليبية وتوحيدها والحفاظ على استقرارها خلال عهد الدولة الوسطى، وهو نفسه ما قامته به مصر خلال الاحتلال الإيطالي لليبيا وتقوم به الآن. 
ورغم قوة الجيش، إلا أنه لم يشن أي حملات عسكرية على القبائل الليبية البدائية إلا في عصر الرعامسة عندما هاجرت قبائل أوروبية إلى الشريط الساحلي، فأثارت الفتن بين الليبيين ودفعتهم للهجوم على الحدود الغربية المصرية، فأظهرت العسكرية المصرية براعة في حماية الوطن والحفاظ على أشقائهم الليبيين، وكانت بداية عصر الحصون العسكرية.
وفي حلقات متتالية سنطوف سريعا في سجلات مضيئة، سطرتها بطولات رجال الجيش المصري بدءا من حرب التحرير الأولى ضد الهكسوس حتى نصر أكتوبر المجيدة. 
وقبل أن نبدأ ندعو المولى أن يحفظ الله جيش مصر، تلك المؤسسة الحضارية التي كانت ولا تزال العمود الفقري والقلب النابض لمصر وشعبها وتاريخها وتراثها وحضارتها. 

___________
المصادر
أنطوني سبالينجر.. «الحرب في مصر القديمة»
War In Ancient Egypt».. Anthony J. Spalinger» 
د. محمد رأفت عباس.. «الجيش في مصر القديمة.. 1550- 1069 ق.م».. الهيئة المصرية للكتاب.